تحتل الشركات دورًا محوريًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إذ تُعد الوسيلة الأكثر تنظيمًا لممارسة الأنشطة الاقتصادية سواء كانت تجارية أو مهنية أو خدمية. وتنقسم الشركات في التشريعات الحديثة إلى عدة أنواع، أهمها الشركات التجارية والشركات المدنية. ورغم أن كلاهما يتخذ شكلًا مؤسسيًا قائمًا على تجمع أشخاص أو أموال لتحقيق غرض معين، إلا أن هناك فروقًا جوهرية بينهما تتعلق بطبيعة نشاطها، والأساس القانوني الذي يحكمها، وطرق إدارتها، والمسؤوليات المترتبة على الشركاء فيها.
تكتسب الشركات المدنية أهمية خاصة لأنها الإطار القانوني الذي تُمارَس من خلاله العديد من المهن التي ترتبط بخدمات المجتمع، مثل الطب، والهندسة، والاستشارات القانونية، والمحاسبة، والبحث العلمي، والخدمات المهنية. ولذلك كان من الضروري التمييز بينها وبين الشركات التجارية التي تقوم على المضاربة والربح وتحكمها قواعد القانون التجاري.
تهدف هذه المقالة إلى تقديم دراسة قانونية شاملة عن الشركات المدنية، مع تحليل ما يميزها عن الشركات التجارية، واستعراض الأساس القانوني لكل منها، وبيان آثار هذا التقسيم على المسؤولية، والإدارة، والقيود المهنية، والمركز القانوني أمام القضاء.
مفهوم الشركة المدنية ونشأتها
تُعرَّف الشركة المدنية بأنها:
- “اتحاد شخصين أو أكثر للقيام بعمل غير تجاري، وغالبًا ما يكون عملًا مهنيًا أو علميًا أو خدميًا، بقصد تحقيق منفعة مشتركة، مع اقتسام الأرباح والخسائر.”
- وهذا التعريف يميّز الشركة المدنية عن الشركة التجارية التي يقتضي وجودها ممارسة أعمال تجارية بالمعنى الوارد في قانون التجارة.
نشأة الشركات المدنية في التشريعات الحديثة :
- ظهرت الحاجة إلى إنشاء شركات مدنية مع اتساع نطاق المهن الحرة،
- وبخاصة بعد أن أصبح من الصعب على الفرد ممارسة الأعمال المهنية منفردًا في ظل التطور التكنولوجي والتشريعات المتقدمة.
- فكان من الضروري وضع إطار قانوني يتيح للمهن المختلفة ممارسة نشاطها في شكل مؤسسي ومنظم دون الخضوع لقواعد التجارة التي لا تتناسب مع طبيعة تلك المهن.
الطبيعة القانونية للشركة المدنية
- تُعد الشركة المدنية من أبرز أشكال الشركات التي ينظمها القانون المدني، وتتميز بطبيعتها القانونية الخاصة التي تختلف عن الشركات التجارية.
- وتحديد طبيعتها القانونية يساعد على فهم قواعد تأسيسها، مسؤوليات الشركاء، وكيفية تنظيمها وعلاقاتها مع الغير.
1. الفرق بين العقد المدني والتجاري في تأسيس الشركة :
- يعتمد تأسيس الشركة المدنية على القواعد العامة في القانون المدني لأنها ليست شركة تقوم على المضاربة أو التداول.
- وبما أنها تخضع للقانون المدني، فإن قواعد الإثبات، والمسؤولية، وتفسير العقد، تخضع جميعها للقواعد المدنية وليس التجارية.
- أما الشركات التجارية فأساسها القانون التجاري، وتخضع لوجود سجل تجاري، وقواعد محاسبية، ونظام مالي خاص، إضافة إلى خضوعها للقضاء التجاري.
2. النشاط المدني أساس تصنيف الشركة :
- العبرة الأساسية في تصنيف الشركة ليست شكلها القانوني، بل طبيعة نشاطها.
- فإذا كان نشاط الشركة مدنيًا مهما اتخذت من شكل، اعتُبرت شركة مدنية.
- وإذا كان نشاطها تجاريًا ولو اتخذت شكلًا مدنيًا، عُدّت تجارية.
أنواع الشركات المدنية
يمكن تلخيص أهم أنواع الشركات المدنية على النحو الآتي:
1. شركات المحاصة المهنية :
- وهي شركات تنشأ بين مجموعة من المهنيين ولكنها لا تظهر للغير،
- بل تبقى علاقاتها داخلية. وتستخدم غالبًا بين الأطباء أو المحامين أو المهندسين.
2. شركات التضامن المدنية :
- تشبه شركات التضامن التجارية، لكن نشاطها مدني، وتقوم على الثقة الشخصية،
- ويكون جميع الشركاء مسؤولين مسؤولية تضامنية ولكن في نطاق القواعد المدنية.
3. شركات الممارسة المهنية المشتركة :
- وهي المنتشرة في مكاتب المحاماة، والمحاسبة، والاستشارات الهندسية، والمراكز الطبية.
- وهي شركات قائمة على مزاولة مهنة محددة وفق تراخيص وشروط خاصة.
4. شركات التوصية المدنية :
- تستمد صورتها من شركة التوصية التجارية، لكنها تستخدم في بعض الأنشطة المهنية التي تحتاج إلى رأس مال من شخص غير مهني.
خصائص الشركات المدنية
- تتميز الشركات المدنية بمجموعة من الخصائص القانونية والتنظيمية التي تجعلها تختلف جوهريًا عن الشركات التجارية،
- سواء من ناحية طبيعة النشاط أو أسلوب الإدارة أو طبيعة المسؤولية الملقاة على عاتق الشركاء.
- وتعكس هذه الخصائص طبيعة الشركات المدنية باعتبارها شركات تنشأ لممارسة مهن أو أعمال غير تجارية،
- تقوم على الثقة والكفاءة الفنية والمهنية، وليس على المضاربة أو التداول التجاري.
1. نشاطها غير تجاري :
يمثل النشاط جوهر الشركة المدنية، وهو نشاط علمي، أو ثقافي، أو مهني، أو خدمي.
وهي لا تهدف إلى المضاربة وإنما تسعى إلى تحقيق المنفعة المشتركة.
2. قيامها على العنصر الشخصي :
تعتمد الشركات المدنية على كفاءة وخبرة الشركاء، خاصة في المهن الحرة.
فالعلاقة بين الشركاء علاقة ثقة، لا يمكن تنازل أحد عن حصته إلا بموافقة باقي الشركاء.
3. خضوعها للقانون المدني :
وتطبيق هذا القانون ينعكس على:
- طرق الإثبات
- المسؤولية المدنية
- حل النزاعات
- أركان العقد وآثاره
4. عدم اشتراط القيد في السجل التجاري :
- غالبًا لا تقيد الشركات المدنية في السجل التجاري لأنها لا تمارس نشاطًا تجاريًا، بل تخضع لنقابات مهنية أو جهات تنظيمية خاصة.
5. الأرباح ليست معيارًا للتجارية :
- يمكن للشركة المدنية أن تحقق أرباحًا، ولكن مجرد تحقيق الربح لا يجعلها تجارية طالما بقي النشاط مدنيًا.
الشركات المدنية في مقابل الشركات التجارية
- تمثل الشركات في التشريعات العربية نوعين رئيسيين: الشركات المدنية والشركات التجارية.
- ورغم التشابه في بعض الجوانب الشكلية—مثل الحاجة إلى عقد تأسيس، رأس مال،
- وشركاء—إلا أنّ الاختلافات الجوهرية بينهما كبيرة وتمس طبيعة النشاط وأساس التأسيس والمسؤولية القانونية والضرائب والإدارة. وفيما يلي عرض شامل لأهم الفروق بين النوعين.
1. اختلاف الطبيعة القانونية :
الشركات التجارية تقوم على نشاط يعتبره القانون تجاريًا مثل:
- البيع والشراء بغرض الربح
- أعمال البنوك
- أعمال التأمين
- المقاولات
- النقل
بينما الشركات المدنية تركز على المهن والخدمات العلمية أو الإنسانية.
2. مسؤولية الشركاء :
- في الشركات التجارية: تختلف المسؤولية حسب النوع (محدودة، تضامنية، توصية، مساهمة).
- أما في الشركات المدنية: غالبًا تكون مسؤولية الشركاء غير محدودة، لكنها محكومة بالقواعد المدنية التي تراعي حسن الأداء المهني وليس المخاطرة التجارية.
3. الإدارة :
في الشركات التجارية تتسم الإدارة بالطابع المالي والاقتصادي، بينما في الشركات المدنية فإن الإدارة قائمة على المهارات المهنية للشركاء.
4. القيود المهنية :
تخضع الشركات المدنية عادة لرقابة نقابية:
فالأطباء يخضعون لنقابة الأطباء، والمحامون لنقابة المحامين…
وهذه القيود غير موجودة في الشركات التجارية.
5. الرقابة الضريبية والمحاسبية :
تخضع الشركات التجارية لمتطلبات محاسبية أشد صرامة، مثل:
- دفاتر تجارية إلزامية
- معايير مالية دولية
- مراجعة حسابات
- قواعد إفصاح
أما الشركات المدنية فغالبًا تعتمد على قواعد محاسبية أبسط، تبعًا لطبيعة النشاط.
التزامات وحقوق الشركاء في الشركات المدنية
- تُعد الشركات المدنية من الأشكال القانونية المميزة التي تُنشأ بين أشخاص يزاولون عملاً غير تجاري،
- ويكون الغرض منها تحقيق الربح عبر مشروع يقوم على الجهد العلمي أو المهني أو الفني للشركاء.
- ولتحقيق التوازن بين الشركاء وضمان استقرار الشركة،
- تحدد التشريعات العربية مجموعة من الحقوق والالتزامات التي يجب احترامها، سواء في مرحلة التأسيس أو أثناء تشغيل الشركة.
1. التزامات الشركاء :
من أبرز التزامات الشركاء:
- أداء العمل المتفق عليه
- عدم منافسة الشركة
- تقديم الخدمات المهنية بإتقان
- تحمل الخسائر
- الالتزام بأخلاقيات المهنة
2. حقوق الشركاء :
تشمل الحقوق:
- الحصول على الأرباح
- المشاركة في الإدارة المهنية
- الحصول على المستندات والحسابات
- الانسحاب وفق شروط العقد
المسؤولية القانونية للشركاء في الشركات المدنية
- تُعد المسؤولية القانونية للشركاء في الشركات المدنية من أبرز الجوانب التي تحدد طبيعة هذا الكيان القانوني،
- إذ تختلف الشركات المدنية عن الشركات التجارية في أن العلاقة فيها تقوم أساسًا على الثقة الشخصية والكفاءة المهنية،
- وليس على الأموال والمضاربة التجارية. ولذلك، فإن مسؤولية الشركاء فيها غالبًا ما تكون مسؤولية شخصية ومباشرة،
- وليست محدودة كما هو الحال في كثير من الشركات التجارية.
1. المسؤولية المهنية :
- يرتبط عمل الشركات المدنية عادة بمسؤولية مهنية، مثل مسؤولية الطبيب عن أخطاء العلاج، أو مسؤولية المحامي عن التقصير المهني.
2. المسؤولية المدنية :
- تلتزم الشركة بتعويض المتضررين من أخطاء الشركاء، وتتم التسوية وفق قواعد المسؤولية المدنية التقليدية.
3. المسؤولية التضامنية :
- في كثير من الشركات المدنية، يكون الشركاء مسؤولين بالتضامن، شأنهم شأن الشركاء في شركات التضامن التجارية، ولكن في إطار غير تجاري.
مزايا الشركات المدنية
- تتميز الشركات المدنية بعدد من المزايا التي تجعلها الشكل الأنسب لممارسة المهن الحرة والخدمات العلمية والمهنية،
- خاصة تلك التي تعتمد على الكفاءة الشخصية والخبرة التخصصية.
- وتمتد هذه المزايا إلى الجوانب المهنية والقانونية والتنظيمية والاقتصادية، مما يجعلها خيارًا مفضّلًا للعديد من أصحاب الخبرات.
1. تعزيز العمل الجماعي المهني :
- تساعد الشركات المدنية على تطوير المهن من خلال عمل جماعي يجمع خبرات مختلفة.
2. تقليل التكاليف وزيادة الكفاءة :
العمل في شكل شركة يسمح بتقاسم التكاليف مثل:
- الإيجار
- الأجهزة
- الموظفين
- البرامج التقنية
3. زيادة القدرة التنافسية :
- تمنح الشركات المدنية المهنيين قوة أكبر في مواجهة السوق مقارنة بالعمل الفردي.
4. المرونة القانونية :
- لأنها تخضع للقانون المدني، تتيح حرية أكبر في تنظيم العلاقة بين الشركاء.
التزامات الشركات المدنية تجاه الغير
- تلتزم الشركات المدنية — رغم أنها لا تمارس نشاطًا تجاريًا — بعدد من الواجبات القانونية تجاه الأفراد أو المؤسسات أو الجهات التي تتعامل معها.
- وتستمد هذه الالتزامات أساسها من القانون المدني ومن قواعد المسؤولية المهنية الخاصة بكل مهنة. ويمكن تقسيم هذه الالتزامات إلى أربع مجموعات رئيسية:
1. التزامات التعاقد :
- تكون الشركة مسؤولة عن أداء الأعمال المهنية للغير، مثل إجراء عملية جراحية أو إعداد دراسة هندسية.
2. التزامات التعويض :
- إذا نتج ضرر عن خطأ مهني، فإن الشركة تتحمل التعويض.
3. توقيع العقود :
- يمثل المديرون الشركة أمام الغير، وتكون العقود نافذة طالما أنها ضمن حدود النشاط المدني.
أسباب حل أو انقضاء الشركات المدنية
من أسباب انقضاء الشركة المدنية:
- انتهاء مدة الشراكة
- وفاة أحد الشركاء (في بعض الأنواع)
- فقدان الترخيص المهني
- انسحاب أحد الشركاء الأساسيين
- صدور حكم قضائي بالحل
- خسائر تمنع استمرار العمل
أهمية الشركات المدنية في المجتمع الحديث
تلعب الشركات المدنية دورًا جوهريًا في:
- دعم التنمية المهنية
- تحسين جودة الخدمات
- توفير بيئة عمل تعاونية
- تطوير مهن الطب والهندسة والقانون
- تشجيع البحث العلمي والاستشارات
وتسهم في تحسين الناتج المحلي، رغم أنها لا تُعد شركات تجارية.