المتهم بريء حتى تثبت إدانته

يُعد مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته حجر الزاوية في العدالة الجنائية الحديثة، وأحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة، حيث يضع عبء الإثبات على عاتق الادعاء العام، ويمنع إدانة أي إنسان بناءً على الظن أو الشبهة. هذا المبدأ لم يأت من فراغ، بل استمد جذوره من الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية، والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان، وأصبح اليوم قاعدة عالمية ملزمة لجميع الأنظمة القضائية.
تهدف هذه المقالة إلى دراسة هذا المبدأ من مختلف الجوانب: الشرعية، القانونية، الفلسفية، والتطبيقية، مع بيان أثره في حماية حقوق الأفراد وضمان استقرار المجتمع.

الفصل الأول: الأساس الشرعي لمبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”

  • هذا المبدأ لم يظهر فجأة في القوانين الوضعية الحديثة، بل هو مبدأ أصيل رسخته الشريعة الإسلامية منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا،
  • وجعلته قاعدة عدلية عامة في كل ما يتعلق بحقوق الأفراد ومسؤولياتهم.

في الشريعة الإسلامية :

  • الإسلام وضع قواعد راسخة في مجال القضاء، تقوم على ضرورة إقامة البينة القاطعة قبل الحكم على أي شخص.
  • قال النبي ﷺ: “البينة على من ادعى واليمين على من أنكر”، وهو نص يؤسس مباشرة لقاعدة عبء الإثبات.
  • قاعدة “ادرؤوا الحدود بالشبهات” تؤكد أن الأصل براءة الذمة، وأن مجرد وجود شك أو شبهة كافٍ لإسقاط العقوبة.
  • مبدأ العدالة والرحمة في الإسلام يمنع الظلم، فجاءت أحكام الشريعة لتضمن أن لا يُدان أحد إلا ببينة واضحة.

في الشرائع السماوية الأخرى :

  • في المسيحية واليهودية، نجد أيضاً إشارات إلى ضرورة التثبت من التهمة وعدم الحكم بالباطل.
  • وصايا التوراة والإنجيل شددت على عدم شهادة الزور وعلى وجوب العدل في القضاء.

الفصل الثاني: الأساس القانوني للمبدأ

  • يُعد مبدأ افتراض البراءة أحد أهم القواعد العامة التي يقوم عليها القانون الجنائي والإجراءات الجنائية في مختلف الأنظمة القانونية.
  • وقد حظي هذا المبدأ بتكريس واضح في التشريعات الوطنية والدولية على حد سواء، حتى أصبح قاعدة آمرة لا يجوز المساس بها،
  • لما يمثله من ضمانة أساسية لتحقيق العدالة الجنائية وحماية الحقوق الفردية.

في الدساتير الوطنية :

  • معظم دساتير العالم نصّت صراحة على هذا المبدأ.
  • في الدستور المصري: “المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها الضمانات الكافية للدفاع عنه”.
  • في الدستور الفرنسي: المادة التاسعة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 نصت على أن كل إنسان يُفترض براءته حتى تثبت إدانته.

في القانون الدولي :

  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948): المادة 11 تنص على أن كل شخص متهم بجريمة يُعتبر بريئاً إلى أن يثبت عليه الجرم قانوناً بمحاكمة علنية.
  • العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966): المادة 14 تؤكد نفس المبدأ.
  • المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان كرستا هذا المبدأ في أحكام عديدة.

الفصل الثالث: البعد الفلسفي للمبدأ

  • لا يقتصر مبدأ افتراض البراءة على كونه قاعدة قانونية أو نصًا دستوريًا،
  • بل هو في جوهره فكرة فلسفية وأخلاقية عميقة ترتبط بمفهوم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية.
  • إذ يُعبّر هذا المبدأ عن تصور فلسفي لطبيعة العلاقة بين الفرد والدولة، وبين الحرية الفردية ومتطلبات الأمن العام، وبين الأخلاق والعدالة.

فلسفة العدالة :

  • العدالة تفترض المساواة بين الناس أمام القانون، ولا يمكن معاقبة شخص إلا بعد التأكد من خطئه.
  • المبدأ يعكس احترام الكرامة الإنسانية والحرية الفردية.

الحرية مقابل الأمن :

  • بعض الفلاسفة القانونيين رأوا أن التشدد في افتراض البراءة قد يضر بالأمن العام،
  • بينما آخرون أكدوا أن التضحية بحريات الأفراد بحجة الأمن تؤدي إلى الاستبداد.

المنظور الأخلاقي :

  • من غير الأخلاقي معاملة شخص كأنه مجرم قبل ثبوت التهمة، لأن ذلك يُخالف قاعدة “العدل أساس الملك”.

الفصل الرابع: الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للمبدأ

  • لا يقتصر أثر مبدأ افتراض البراءة على المجال القانوني أو القضائي فحسب،
  • بل يمتد ليشمل جوانب اجتماعية واقتصادية عميقة،
  • حيث ينعكس احترام هذا المبدأ أو انتهاكه على حياة الأفراد والمجتمع بأسره، بل وعلى حركة الاقتصاد واستقرار المعاملات.

حماية سمعة الفرد :

  • اتهام شخص بجريمة دون إثبات يضر بسمعته وحياته الأسرية والعملية.
  • افتراض البراءة يحمي الإنسان من الوصم الاجتماعي.

الثقة في القضاء :

  • احترام هذا المبدأ يعزز ثقة المواطنين في عدالة النظام القضائي.
  • أي انتهاك له يفتح باباً للظلم ويزعزع استقرار المجتمع.

البعد الاقتصادي :

  • الحبس الاحتياطي الطويل قبل الإدانة قد يؤدي إلى فقدان الوظائف وخسائر اقتصادية.
  • المبدأ يسعى إلى تقليل الأضرار غير المبررة على المتهمين وأسرهم.

الفصل الخامس: التحديات العملية في تطبيق المبدأ

  • رغم أن مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته يشكّل قاعدة أساسية في العدالة الجنائية ويُكرَّس في معظم الدساتير والاتفاقيات الدولية،
  • إلا أن تطبيقه على أرض الواقع يواجه عدداً من التحديات العملية التي قد تُضعف من فعاليته وتؤثر على ثقة الأفراد في النظام القضائي.

الإعلام والمحاكمات الشعبية :

  • الإعلام قد يسبق القضاء في إدانة المتهمين، مما يشكل ضغطاً على القضاة والرأي العام.
  • انتشار وسائل التواصل زاد من خطورة “التشهير المسبق”.

الحبس الاحتياطي :

  • رغم أن الأصل البراءة، إلا أن بعض الدول تسيء استخدام الحبس الاحتياطي وكأنه عقوبة قبل الحكم.
  • هذا يتعارض مع المبدأ ويجعل تطبيقه ناقصاً.

الجرائم الإرهابية والجرائم الكبرى :

  • في قضايا الإرهاب أو الجرائم المنظمة، تضغط الاعتبارات الأمنية على مبدأ البراءة.
  • بعض التشريعات منحت سلطات واسعة للأجهزة الأمنية على حساب ضمانات المتهم.

الفصل السادس: المقارنة بين الأنظمة القانونية

  • رغم أن مبدأ افتراض البراءة يكاد يكون محل اتفاق عالمي،
  • إلا أن تطبيقه يختلف من نظام قانوني إلى آخر تبعاً للخلفية التاريخية والثقافية والدستورية لكل دولة.

النظام الأنجلوسكسوني (Common Law) :

  • يشدد على دور هيئة المحلفين في تقييم الأدلة.
  • افتراض البراءة مبدأ أصيل، وعلى الادعاء أن يثبت الجريمة “بما لا يدع مجالاً للشك المعقول”.

النظام اللاتيني (Civil Law) :

  • يعتمد على القاضي المحترف في تقييم الأدلة.
  • افتراض البراءة منصوص عليه في التشريعات، لكن التطبيق يختلف باختلاف الدول.

القانون العربي والإسلامي :

  • مستمد من الشريعة الإسلامية التي رسخت المبدأ منذ قرون.
  • التحدي يكمن في التوازن بين النصوص الشرعية والتطبيقات الحديثة.

الفصل السابع: الضمانات المكملة لمبدأ البراءة

  • لكي يتحقق مبدأ افتراض البراءة على أرض الواقع بصورة فعّالة، لا يكفي النص عليه في الدساتير أو القوانين،
  • بل يجب أن تحيط به مجموعة من الضمانات القانونية والإجرائية التي تكفل حمايته وتمنع أي انتهاك له.
  • هذه الضمانات هي السياج الذي يحمي حقوق المتهم ويضمن عدالة المحاكمة، ومن أهمها:

حق الدفاع :

  • توفير محامٍ للمتهم جزء لا يتجزأ من ضمان افتراض البراءة.

علنية المحاكمة :

  • المحاكمات العلنية تمنع الانحراف القضائي وتؤكد على عدالة الإجراءات.

منع التعذيب وانتزاع الاعترافات :

  • لا قيمة لافتراض البراءة إذا كان الاعتراف يُنتزع تحت التعذيب.
  • الاتفاقيات الدولية جرّمت هذه الممارسات وأكدت على بطلان الأدلة المنتزعة بالإكراه.

الفصل الثامن: أمثلة قضائية واقعية

  • تطبيق مبدأ افتراض البراءة ليس مجرد نصوص نظرية، بل له تطبيقات عملية في القضاء الوطني والدولي،
  • وقد شهد التاريخ القضائي العديد من القضايا التي أظهرت قوة هذا المبدأ أو انعكاسه على حياة المتهمين.

قضية درايفوس في فرنسا (1894) :

  • اتُّهم الضابط اليهودي بالخيانة ظلماً وأدين رغم غياب الأدلة القاطعة.
  • القضية أبرزت خطورة انتهاك مبدأ البراءة وأدت إلى إصلاحات قضائية لاحقة.

قضايا الإرهاب الحديثة :

  • بعض الدول الغربية سجنت متهمين لسنوات دون محاكمة عادلة.
  • منظمات حقوق الإنسان اعتبرت ذلك انتهاكاً صريحاً للمبدأ.

قضايا عربية :

  • في بعض الدول العربية، نجد نقداً لاستخدام الحبس الاحتياطي المطول، مما يتعارض مع افتراض البراءة.

 

يتمتع مكتبنا بخبرة واسعة في مختلف أنواع القضايا والمسائل القانونية، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكل من يبحث عن حلول قانونية دقيقة وفعالة. سواء كنت تواجه قضية شخصية أو تجارية، أو تحتاج إلى توجيه قانوني متخصص، فإن فريق المحامين لدينا على استعداد لتقديم الدعم الكامل لك.

لمعرفة المزيد عن خدماتنا أو لحجز استشارة قانونية، يمكنك التواصل معنا عبر الضغط على الرابط التالي، أو ملء النموذج أدناه وسنقوم بالرد عليك في أقرب وقت ممكن:

[“contact-form-7 id=”218″ title=”اتصل بنا”]