تُعتبر العلاقة الزوجية من أقدس الروابط الإنسانية التي تقوم على المودة والرحمة والتعاون، وقد شرعها الإسلام باعتبارها أساساً لتكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع. إلا أنّ هذه العلاقة قد تتعرض أحياناً لهزات وخلافات تهدد استقرارها وتؤدي إلى انهيارها. ومن أبرز صور هذه الخلافات ما ينشأ بسبب غيبة الزوج عن زوجته أو إلحاقه الضرر بها، سواء كان ضرراً مادياً أو معنوياً.
ولما كانت الشريعة الإسلامية تسعى لتحقيق العدل ورفع الحرج عن الزوجين، فقد أجازت للمرأة أن تطلب التفريق عن زوجها إذا تضررت من غيبته الطويلة أو من إساءته المتعمدة أو إهماله. وقد سار القانون المدني وقوانين الأحوال الشخصية في معظم الدول العربية على نهج الشريعة في تنظيم هذا الحق، مراعاةً لمصلحة الأسرة وحمايةً للزوجة من المعاناة المستمرة.
تهدف هذه المقالة إلى دراسة دعوى التفريق بسبب الغيبة والضرر من جوانبها الفقهية والقانونية، مع بيان شروطها وإجراءاتها وآثارها، مع عرض بعض التطبيقات القضائية والمقارنة بين التشريعات المختلفة.
الفصل الأول: الإطار الشرعي والقانوني لدعوى التفريق
الإطار الشرعي والقانوني لدعوى التفريق وتقسيمه إلى محاور واضحة تجمع بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية.
أولاً: الأساس الشرعي للتفريق :
من القرآن الكريم :
- قوله تعالى: “وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته” [النساء: 130]، دليل على أن التفريق مشروع عند تعذر استمرار الحياة الزوجية.
- قوله تعالى: “وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً” [النساء: 19].
من السنة النبوية :
- قول الرسول ﷺ: “لا ضرر ولا ضرار”، وهو أصل فقهي يُستند إليه في التفريق بسبب الضرر.
- ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد: “لا تحبسوا أحداً من المسلمين عن أهله، فإن فعلتم لأطلقت يده بيدها”.
ثانياً: الأساس القانوني للتفريق :
- معظم قوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية أخذت بمبدأ التفريق للغيبة والضرر.
- في القانون المصري: أجاز المشرّع التفريق للضرر (مادة 6 من القانون رقم 25 لسنة 1929).
- في القانون السوري: نصت المادة (109) على حق الزوجة في طلب التفريق إذا غاب عنها زوجها أكثر من سنة بلا عذر مقبول.
- في القانون المغربي: مدونة الأسرة نصت على حق الزوجة في طلب التطليق للغيبة أو للضرر.
الفصل الثاني: التفريق بسبب الغيبة
التفريق بسبب الغيبة، مع شرح فقهي وقانوني، وأمثلة مقارنة بين التشريعات :
أولاً: مفهوم الغيبة :
- الغيبة في اصطلاح الفقهاء هي انقطاع الزوج عن زوجته مدة طويلة بحيث تتعذر معها مصالحها الشرعية والمعيشية.
- وقد تكون الغيبة بإذن الزوجة أو بغير إذنها، وقد تكون لأسباب مشروعة كالسفر للعمل أو غير مشروعة كالانقطاع والهجر.
ثانياً: الحكمة من إقرار التفريق للغيبة :
- رفع الضرر عن الزوجة ومنع وقوعها في الحرج أو الفتنة.
- تحقيق مبدأ العدالة بين الزوجين، إذ ليس من العدل أن تبقى المرأة معلقة بلا حقوق زوجية.
- المحافظة على استقرار الأسرة والمجتمع.
ثالثاً: شروط التفريق للغيبة :
- أن تكون غيبة الزوج طويلة تتجاوز سنة فأكثر بحسب القوانين.
- أن تكون الغيبة بغير عذر مشروع.
- أن يترتب على الغيبة ضرر للزوجة كحرمانها من النفقة أو المعاشرة.
- أن ترفع الزوجة دعوى أمام المحكمة وتثبت الغياب.
رابعاً: إجراءات الدعوى :
- تقوم الزوجة برفع الدعوى أمام محكمة الأحوال الشخصية.
- تكلف المحكمة الزوج بالحضور أو إرسال من يمثله.
- إذا ثبتت الغيبة وتعذر الإصلاح، تقضي المحكمة بالتفريق.
خامساً: التطبيقات الفقهية والقضائية :
- في المذهب المالكي: إذا غاب الزوج أكثر من سنة فللزوجة أن تطلب التفريق.
- في المذهب الحنفي: يفرق القاضي إذا خافت الزوجة على نفسها الفتنة.
- المحاكم العربية غالباً ما تعتمد على إثبات الغياب بواسطة الشهود أو الوثائق الرسمية.
الفصل الثالث: التفريق بسبب الضرر
- التفريق بسبب الضرر على الطريقة نفسها التي كتبت بها فصل “التفريق بسبب الغيبة”،
- مع تقسيمه إلى محاور: الأساس الشرعي، الفقهي، القانوني، الشروط، الإجراءات، والتطبيقات القضائية.
أولاً: تعريف الضرر:
الضرر هو كل ما يلحق بالزوجة أذى مادياً أو معنوياً يجعل استمرار الحياة الزوجية أمراً متعذراً. ويشمل:
- الضرر المادي: الضرب، الإيذاء الجسدي، الامتناع عن النفقة.
- الضرر المعنوي: الإهانة، السب، الهجر في المضجع، الإكراه على ما لا يرضيها.
ثانياً: الأساس الفقهي :
- قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” أصل في رفع الحرج.
- قال ابن قدامة: “إذا تضررت المرأة بزوجها جاز لها طلب التفريق”.
ثالثاً: شروط التفريق للضرر :
- ثبوت الضرر بكافة وسائل الإثبات.
- أن يكون الضرر متكرراً أو جسيماً.
- أن يتعذر معه دوام العشرة بالمعروف.
رابعاً: إثبات الضرر أمام المحكمة :
- شهادة الشهود.
- التقارير الطبية.
- محاضر الشرطة أو البلاغات الرسمية.
- رسائل أو وثائق مكتوبة.
خامساً: موقف القوانين :
- في القانون المصري: يثبت التفريق إذا ثبت الضرر (المادة 6 من قانون 25 لسنة 1929).
- في القانون السوري: نصت المادة (112) على حق الزوجة في طلب التفريق إذا أضر بها الزوج.
- في القانون المغربي: مدونة الأسرة جعلت الضرر سبباً مستقلاً للتطليق.
الفصل الرابع: مقارنة بين التفريق للغيبة والضرر
دعوى التفريق للغيبة و دعوى التفريق للضرر من حيث السبب، من حيث الإثبات ،من حيث الإثبات ،من حيث المدة :
من حيث السبب :
- الغيبة: انقطاع الزوج.
- الضرر: إلحاق الأذى المباشر بالزوجة.
من حيث الإثبات :
- الغيبة: يسهل إثباتها بالوثائق أو الشهود.
- الضرر: قد يصعب إثباته أحياناً لكونه سلوكياً أو معنوياً.
من حيث المدة :
- الغيبة: غالباً يشترط مرور سنة على الأقل.
- الضرر: لا يشترط مدة معينة بل يكفي تحقق الضرر.
من حيث الآثار :
-
كلاهما يؤدي إلى فسخ عقد الزواج وحماية الزوجة.
الفصل الخامس: الآثار المترتبة على حكم التفريق
الآثار المترتبة على حكم التفريق بين الزوجين بسبب الغيبة أو الضرر من الناحية الشرعية والقانونية :
أولاً: من الناحية الزوجية :
- انحلال عقد الزواج واعتبار الزوجة مطلقة بائن.
- حقها في الزواج بآخر بعد انتهاء العدة.
ثانياً: من الناحية المالية :
- استحقاق الزوجة مؤخر الصداق.
- حقها في النفقة عن الفترة السابقة.
- حقها في نفقة العدة.
ثالثاً: من ناحية الأولاد :
- ثبوت نسب الأولاد لأبيهم.
- التزام الأب بالنفقة والحضانة.
- مراعاة مصلحة الطفل في الحضانة والرعاية.
الفصل السادس: الاجتهادات القضائية والتجارب المقارنة
- في مصر: محكمة النقض أقرّت أن الضرر الموجب للتفريق هو ما لا تُطاق معه العشرة.
- في المغرب: تشدد المحاكم في إثبات الضرر حماية للزوجة.
- في السعودية: المحاكم الشرعية تعتمد على اجتهاد القاضي وفق الشريعة.
- في الأردن: قانون الأحوال الشخصية نص بوضوح على التفريق للغيبة والضرر.
الفصل السابع: التحديات والانتقادات
- صعوبة إثبات الضرر المعنوي.
- طول إجراءات التقاضي.
- إساءة استخدام الدعوى أحياناً من أحد الزوجين.
- غياب التوعية القانونية لدى بعض النساء بحقوقهن.