تمثل الجريمة اعتداءً على مصلحة يحميها القانون، غير أنّ المشرّع في بعض الحالات لا يجعل تحريك الدعوى الجنائية تلقائيًا من قِبَل النيابة العامة، بل يعلّقه على تقديم شكوى من المجني عليه أو من يقوم مقامه قانونًا. وتسمّى هذه الفئة بـ”الجرائم المعلّقة على شكوى”، وهي جرائم غالبًا ما ترتبط بالجانب الشخصي والاعتبارات الاجتماعية أكثر من كونها اعتداءً على المصلحة العامة فقط.
وقد أثارت هذه الجرائم جدلاً بين الفقهاء والمشرعين حول مبررات تعليقها على الشكوى، وحدود سلطة المجني عليه في تحريك الدعوى أو التنازل عنها، وكذلك الآثار المترتبة على ذلك من الناحية الإجرائية والموضوعية.
تهدف هذه المقالة إلى تقديم دراسة موسعة حول مفهوم الجرائم المعلقة على شكوى، أساسها، نطاقها، تطبيقاتها، والآثار القانونية والاجتماعية المترتبة عليها.
أولاً: الإطار المفاهيمي للجرائم المعلقة على شكوى
- الجريمة المعلقة على شكوى هي تلك التي لا يجوز للنيابة العامة تحريك الدعوى الجنائية بشأنها إلا بناءً على طلب صريح من المجني عليه أو من يمثله قانونًا.
- وبدون تقديم الشكوى، تظل النيابة عاجزة عن اتخاذ أي إجراء، وكأن الفعل لم يكن محل تجريم عمليًا.
1- الأساس الشرعي والقانوني :
- الأساس الشرعي:
الشريعة الإسلامية أقرت مبدأ حق الفرد في العفو أو المطالبة بالقصاص والدية، مثل جرائم القذف أو بعض أنواع الإيذاء، حيث يترك للمجني عليه تقرير مصير الدعوى. -
الأساس القانوني:
القوانين الجنائية الحديثة (مثل القانون المصري، السعودي، الأردني…) نصّت على هذا النوع من الجرائم لتوازن بين حماية المصلحة العامة وصيانة الاعتبارات الشخصية والأسرية.
2- خصائص الجرائم المعلقة على شكوى :
- لا تتحرك فيها الدعوى إلا بالشكوى.
- الشكوى تعتبر شرطًا لازمًا لقبول الدعوى.
- التنازل عن الشكوى يُسقط الدعوى.
- ترتبط غالبًا بجرائم ذات طبيعة شخصية أو عائلية.
ثانياً: الأسباب التي دفعت المشرع لتعليق بعض الجرائم على الشكوى
الأسباب التي دفعت المشرّع لتعليق بعض الجرائم على الشكوى :
1- الطابع الشخصي للضرر :
- بعض الجرائم لا تمس النظام العام مباشرة، وإنما تمس اعتبارات شخصية أو أسرية، مثل السب والقذف أو الامتناع عن تسليم طفل.
2- الحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية :
- المشرّع أراد تجنّب تفكك الأسر بسبب تدخل النيابة العامة في نزاعات بسيطة قد تُحل بالتراضي.
3- التخفيف عن النيابة العامة :
- إعفاء النيابة من ملاحقة جرائم بسيطة قد تكثر لو كانت الدعوى تُحرك من تلقاء نفسها، مما يرهق القضاء.
4- تمكين المجني عليه من حرية الاختيار :
- يُترك للمجني عليه تقدير مصلحته: إما أن يحرك الدعوى أو يكتفي بالتنازل أو العفو.
ثالثاً: نطاق الجرائم المعلقة على شكوى
نطاق الجرائم المعلّقة على شكوى ، مع توضيح كيف حدّد المشرّع هذا النطاق في القوانين العربية المختلفة (مصر – السعودية – الأردن – العراق)، مع بيان الأساس الذي اعتمد علية .
1- وفقًا للقانون المصري :
من أبرز هذه الجرائم:
- جريمة الزنا (لا تُقام الدعوى إلا بشكوى من الزوج).
- جريمة الامتناع عن تسليم الصغير.
- جرائم القذف والسب وبعض جرائم النشر.
- بعض الجرائم المالية بين الأقارب (مثل السرقة بين الأصول والفروع).
2- وفقًا للقانون السعودي :
- بعض جرائم السب والقذف.
- بعض قضايا التهديد أو الإيذاء البسيط.
- الجرائم التي تتعلق بالحق الخاص، حيث يُترك للمجني عليه رفع الدعوى.
3- وفقًا للقانون الأردني والعراقي :
تتشابه التشريعات، فنجد:
- الشكوى شرط في جرائم الزنا والسرقة بين الأزواج والأقارب.
- السب والقذف.
- بعض صور الاعتداءات البسيطة.
4- الطبيعة المقارنة :
- رغم الاختلافات الشكلية بين القوانين، إلا أنّ أغلبها يتفق على أن الجرائم المعلقة على شكوى هي جرائم تمس الروابط الأسرية أو الكرامة الشخصية.
رابعاً: الشكوى كشرط إجرائي
الشكوى كشرط إجرائي في الجرائم المعلقة على شكوى :
1- ميعاد تقديم الشكوى :
- عادة يحدد القانون مدة زمنية قصيرة (مثل 3 أشهر من علم المجني عليه بالجريمة ومرتكبها) لتقديم الشكوى.
- سقوط الحق في الشكوى بانقضاء الميعاد.
2- من له الحق في تقديم الشكوى :
- المجني عليه شخصيًا.
- من ينوب عنه قانونًا (كالولي أو الوصي أو الوكيل).
- في بعض الحالات، ورثة المجني عليه.
3- شكل الشكوى :
- قد تكون مكتوبة أو شفهية أمام السلطات المختصة.
- يجب أن تُوجه إلى النيابة العامة أو مأموري الضبط القضائي وفق ما يحدده القانون.
4- التنازل عن الشكوى :
- التنازل يسقط الدعوى الجنائية.
- يمتد أثر التنازل إلى جميع المتهمين.
- في بعض التشريعات، التنازل بعد الحكم لا يُسقط العقوبة إلا إذا نص القانون.
خامساً: الآثار القانونية للجرائم المعلقة على شكوى
الآثار القانونية للجرائم المعلّقة على شكوى :
1- قبل تقديم الشكوى :
- النيابة لا تملك تحريك الدعوى.
- الإجراءات التي تُتخذ قبل الشكوى باطلة.
2- بعد تقديم الشكوى :
- النيابة تملك مباشرة التحقيق والإحالة.
- يمكن للمجني عليه التنازل في أي وقت حتى صدور حكم بات.
3- بعد التنازل عن الشكوى :
- الدعوى تسقط نهائيًا.
- إذا كان هناك أكثر من مجني عليه، يجب تنازل الجميع.
- لا يجوز إعادة تحريك الدعوى عن ذات الواقعة.
سادساً: التطبيقات القضائية
التطبيقات القضائية للجرائم المعلّقة على شكوى مع أمثلة واقعية لكيفية تعامل القضاء معها:
1- القضاء المصري :
- قضت محكمة النقض بأن تحريك الدعوى الجنائية في جرائم الزنا مرهون بشكوى الزوج، ولا يجوز للنيابة اتخاذ إجراء دونها.
2- القضاء السعودي :
- اعتبر القضاء أن إقامة الحد أو التعزير في جرائم العرض والسب مشروط بالادعاء الخاص، وأن تنازل المدعي يسقط الدعوى.
3- القضاء الأردني :
- قضت محكمة التمييز بأن الشكوى في جريمة السرقة بين الأزواج شرط لازم، وأنها تسقط بالتنازل أو بالتصالح.
4- دلالة التطبيقات القضائية :
- التطبيقات تُظهر حرص القضاء على احترام إرادة المجني عليه، وعدم المساس بحرية الاختيار التي منحها المشرع.
سابعاً: الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للجرائم المعلقة على شكوى
إليك تحليلًا شاملًا للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للجرائم المعلّقة على شكوى :
1- الأبعاد الاجتماعية :
- تخفيف حدة النزاعات الأسرية.
- تعزيز ثقافة التسامح والعفو.
- حماية العلاقات الزوجية والأسرية من الانهيار.
2- الأبعاد الاقتصادية :
- تخفيف العبء عن المحاكم.
- تقليل الإنفاق العام على إجراءات التحقيق والمحاكمة.
- اختصار زمن التقاضي في جرائم بسيطة.
3- الانتقادات الموجهة للنظام :
- قد يستغل بعض الجناة هذا النظام في الضغط على المجني عليه للتنازل.
- قد يؤدي إلى إفلات المجرم من العقاب رغم جسامة الفعل أحيانًا.
ثامناً: التحديات العملية
- صعوبة إثبات الجريمة قبل تقديم الشكوى.
- ضغوط اجتماعية أو عائلية قد تُجبر المجني عليه على التنازل.
- غياب التوازن بين الحق الشخصي والحق العام في بعض القوانين.
- تفاوت التشريعات بين الدول، مما يخلق إشكالات في القضايا ذات البُعد الدولي.
تاسعاً: الحلول والمقترحات
-
توسيع نطاق الجرائم التي تحركها النيابة العامة تلقائيًا إذا اقترنت باعتبارات خطيرة.
- إعادة النظر في المواعيد القانونية للشكوى لتكون أكثر مرونة.
- حماية المجني عليه من الضغوط عبر آليات سرية لتقديم الشكوى.
- توحيد التشريعات العربية بشأن الجرائم المعلقة على شكوى لتقليل التناقضات.
- التوعية المجتمعية بدور الشكوى كوسيلة لتحقيق العدالة وليس كأداة للضغط أو الابتزاز.