شهد العالم في العقود الأخيرة تحولًا جذريًا في أنماط الحياة الإنسانية نتيجة الثورة الرقمية، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، البريد الإلكتروني، الحسابات المصرفية الإلكترونية، والمنصات التفاعلية فضاءً موازيًا للحياة الواقعية. هذا الفضاء الرقمي يحفظ تفاصيل دقيقة عن الأفراد: صورهم، مقاطعهم المصورة، رسائلهم، كتاباتهم، تفضيلاتهم، وحتى بياناتهم الصحية والمهنية. هذه المادة الرقمية، التي يمكن تسميتها بـ “الذكريات الرقمية”، باتت تمثل امتدادًا لحياة الشخص وهويته، وتطرح إشكالية قانونية وأخلاقية بعد وفاته.
فهل يظل للفرد حق في الخصوصية بعد الموت؟ ومن يملك حق التصرف في حساباته الرقمية ومحتوياته؟ وهل يمكن اعتبار هذه الذكريات إرثًا يخضع لقواعد الميراث التقليدية؟ وما هي مسؤولية الشركات المالكة للمنصات الرقمية تجاه إدارة تلك الحسابات؟
المقالة الحالية تسعى إلى معالجة هذه الأسئلة، من خلال تحليل الحقوق القانونية للذكريات الرقمية، وبيان كيفية حماية حياة الأشخاص بعد موتهم في الفضاء الرقمي، وذلك من خلال تناول الأبعاد المختلفة: التاريخية، الفلسفية، القانونية، المقارنة، إضافة إلى مقترحات تشريعية مستقبلية.
أولاً: مفهوم الذكريات الرقمية وأبعادها الإنسانية
الذكريات الرقمية هي كل ما يتركه الإنسان من آثار رقمية في الفضاء الإلكتروني نتيجة تفاعلاته اليومية عبر الإنترنت، وتشمل:
-
المحتويات الشخصية: مثل الصور العائلية، الفيديوهات التذكارية، الرسائل الخاصة، اليوميات الإلكترونية، والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي.
-
المحتويات المهنية: المقالات المنشورة، الأبحاث العلمية، العروض التقديمية المخزنة على السحابة، الملفات المرتبطة بالعمل، والسير الذاتية الإلكترونية.
-
المعاملات الإلكترونية: الحسابات المصرفية، سجلات الشراء عبر الإنترنت، المحافظ الإلكترونية، والعملات الرقمية.
-
البيانات الصحية والبيومترية: السجلات الطبية المخزنة عبر التطبيقات، بيانات تتبع اللياقة البدنية، والمعلومات البيولوجية.
وبذلك، فإن الذكريات الرقمية ليست مجرد صور ورسائل، بل هي مرآة متكاملة لحياة الفرد في أبعادها الخاصة والعامة، المادية والمعنوية.
2- البعد الإنساني للذكريات الرقمية :
- لم تعد هذه الذكريات مجرد بيانات، بل أصبحت سجلًا حيًا لمسار حياة الشخص، توثق لحظاته السعيدة والحزينة، نجاحاته وإخفاقاته، أفكاره ومعتقداته.
- ولهذا فإن التعامل مع هذه الذكريات بعد الوفاة يتجاوز مجرد التعامل مع “ممتلكات رقمية”، ليشكل نوعًا من احترام الكرامة الإنسانية واستمرار الحضور الرمزي للشخص.
3- الفضاء الرقمي كامتداد للحياة الواقعية :
- الفضاء الرقمي اليوم يمثل “عالمًا موازيًا” يشارك فيه الأفراد تفاعلاتهم اليومية، ما يجعل إدارة هذا العالم بعد الوفاة قضية لا تقل أهمية عن إدارة الممتلكات المادية.
ثانياً: الإشكاليات القانونية المرتبطة بالذكريات الرقمية
- تثير الذكريات الرقمية بعد وفاة الأشخاص العديد من التساؤلات القانونية المعقدة،
- نظرًا لأنها تقع في منطقة وسطية بين الحقوق الشخصية التي تنقضي عادة بوفاة الإنسان، وبين الحقوق المالية التي تنتقل إلى الورثة.
- هذه الخصوصية تجعل الذكريات الرقمية محل جدل قانوني وأخلاقي عالمي، ويمكن إجمال أهم الإشكاليات في النقاط التالية:
1- حق الخصوصية بعد الوفاة :
- القاعدة التقليدية في القوانين أن الحقوق الشخصية تموت بموت صاحبها، لكن في الفضاء الرقمي يبقى السؤال:
- هل يظل للشخص حق في الحفاظ على أسراره وبياناته بعد وفاته؟
- بعض التشريعات الأوروبية والأمريكية بدأت تعترف بما يسمى “استمرار الحق في الخصوصية الرقمية” كحق لصيق بالكرامة الإنسانية.
2- ملكية المحتوى الرقمي :
هل الذكريات الرقمية تُعتبر مِلكًا للشخص يمكن توريثه، أم أنها مجرد رخصة استعمال مقيدة بالشروط التي وضعتها الشركات المالكة للمنصات؟
- في معظم الحالات، عقود الاستخدام تمنح المستخدم “حق الاستخدام” دون ملكية المحتوى.
- عند الوفاة، ينشأ نزاع بين الورثة والشركات حول من يملك السيطرة على الحسابات الرقمية.
3- حماية السمعة بعد الوفاة :
- قد تتعرض الذكريات الرقمية لتلاعب أو إساءة استخدام بعد وفاة الشخص، مما يسيء إلى سمعته أو يضر بعائلته.
- وهذا يثير مسألة: هل هناك حق قانوني لحماية السمعة بعد الوفاة، خاصة في البيئة الرقمية؟
4- المسؤولية الجنائية والمدنية عن إساءة استخدام الحسابات :
- في حالات قرصنة الحسابات بعد الوفاة، قد يستخدم البعض البيانات لأغراض غير مشروعة مثل الاحتيال أو الابتزاز.
- هنا يثور التساؤل: من المسؤول عن حماية تلك الحسابات؟ هل الشركة المشغلة، أم الورثة، أم جهات إنفاذ القانون؟
ثالثاً: الأطر القانونية المقارنة لحماية الذكريات الرقمية
- تختلف التجارب القانونية من دولة إلى أخرى في تعاملها مع قضية الذكريات الرقمية وحقوق الأفراد بعد الوفاة.
- بعض الأنظمة اعتمدت حلولًا واضحة لحماية البيانات والوصايا الرقمية،
- بينما لا تزال أخرى متأخرة أو تفتقر لأي تنظيم. فيما يلي استعراض لأهم الأطر المقارنة:
1- التجربة الأوروبية :
- اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR): تركز على حماية البيانات الشخصية للأفراد،
- لكنها لم تحسم بوضوح مسألة البيانات بعد الوفاة. بعض الدول كفرنسا أصدرت قوانين خاصة تتيح للأفراد وضع “وصية رقمية” تحدد مصير حساباتهم بعد وفاتهم.
2- التجربة الأمريكية :
- بعض الولايات مثل كاليفورنيا وضعت قوانين تسمح للورثة بالوصول إلى حسابات المتوفى وفق شروط معينة.
- شركات كبرى مثل فيسبوك وغوغل وفرت أدوات لإدارة الحساب بعد الوفاة (Facebook Legacy Contact – Google Inactive Account Manager).
3- التجارب العربية :
- لا تزال التجربة محدودة جدًا. معظم التشريعات العربية لم تتناول صراحة مسألة الذكريات الرقمية بعد الوفاة.
- لكن بعض الفقهاء العرب بدأوا يناقشون إمكانية تطبيق قواعد الميراث التقليدية على “الأموال الرقمية”.
رابعاً: الذكريات الرقمية في ضوء الفقه الإسلامي
- تُثير مسألة الذكريات الرقمية بعد وفاة الإنسان إشكاليات خاصة عند النظر إليها من زاوية الفقه الإسلامي،
- لكونها تتقاطع مع أحكام الميراث، الوصايا، حرمة الميت، وحماية خصوصيته. وهنا يمكن مقاربة الموضوع عبر عدد من المحاور:
1- مبدأ كرامة الإنسان بعد الموت :
- الإسلام يقرر أن للإنسان حرمة بعد وفاته، فلا يجوز التعدي على جسده أو سمعته.
- وبالقياس، فإن بياناته الرقمية وذكرياته ينبغي أن تخضع لذات الحماية.
2- الذكريات الرقمية كميراث :
- إذا كانت الذكريات الرقمية تندرج ضمن “الأموال” أو “المنافع” التي تركها المتوفى،
- فقد تخضع لأحكام الميراث الشرعي، بحيث ينتقل حق إدارتها إلى الورثة.
3- حق الوصية الرقمية :
- يجوز للإنسان أن يحدد في حياته مصير حساباته وبياناته الرقمية،
- باعتبار ذلك وصية مشروعة لا تتجاوز الثلث، وهو ما يتوافق مع التجارب الغربية في “الوصية الرقمية”.
خامساً: الجوانب الفلسفية والأخلاقية
- تُثير الذكريات الرقمية بعد وفاة الإنسان أسئلة عميقة تتجاوز نطاق القانون والفقه، لتدخل في مجال الفلسفة والأخلاق.
- فهي ليست مجرد بيانات تقنية، بل امتداد لهوية الفرد وذاكرته، وحضور رمزي يتجاوز حياته المادية.
1- فكرة الخلود الرقمي :
- ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعيد “إحياء” شخصية المتوفى من خلال بياناته (Digital Afterlife) يثير تساؤلات حول معنى الحياة والموت والذاكرة.
- هل يحق للعائلة إعادة إنتاج شخصية فقيدها عبر هذه التقنيات؟ وما أثر ذلك على مشاعر الآخرين وحقوقهم؟
2- التوازن بين حق الفرد وحق الجماعة :
- قد يرغب المتوفى في حذف كل بياناته بعد الوفاة، لكن عائلته قد ترى في هذه البيانات إرثًا عاطفيًا. وهنا يثور التناقض بين “إرادة الفرد” و”مصلحة الجماعة”.
3- البعد الأخلاقي للشركات التكنولوجية :
- تتحمل الشركات واجبًا أخلاقيًا – قبل أن يكون قانونيًا – في إدارة الحسابات بعد الوفاة، بما يراعي مشاعر الأهل ويحترم كرامة المتوفى.
سادساً: التطبيقات العملية لحماية الذكريات الرقمية
- بعد استعراض الأبعاد القانونية والفقهية والفلسفية للذكريات الرقمية،
- تبرز الحاجة إلى وضع حلول عملية يمكن للأفراد والأسر والمجتمعات والدول تبنيها لضمان حماية هذه الذكريات وصون كرامة المتوفين.
1- أدوات الشركات :
- فيسبوك: يتيح خاصية “جهة اتصال الوراثة” لإدارة الحساب بعد الوفاة.
- غوغل: يقدم خدمة “مدير الحساب غير النشط”.
- آبل: أضافت خاصية “الميراث الرقمي” للتمكين من الوصول إلى بيانات المتوفى.
2- الحلول القانونية العملية :
- سن تشريعات وطنية واضحة حول إدارة الحسابات الرقمية بعد الوفاة.
- إقرار حق الأفراد في إنشاء “وصايا رقمية”.
- إلزام الشركات بتسليم بيانات المتوفى للورثة وفق إجراءات قضائية.
3- الحلول الوقائية للأفراد :
- إعداد وصية رقمية تحدد بوضوح مصير الحسابات.
- مشاركة كلمات المرور مع شخص موثوق أو حفظها في “خزنة إلكترونية”.
- اختيار إعدادات الخصوصية التي تحدد مسبقًا ما يحدث للحساب عند الوفاة.
سابعاً: التحديات المستقبلية
- رغم التقدم القانوني والتقني في التعامل مع الإرث الرقمي،
- تظل حماية الذكريات الرقمية مرتبطة بعدد من التحديات المستقبلية التي تتداخل فيها الجوانب التقنية والقانونية والأخلاقية.
1- الذكاء الاصطناعي والذكريات الرقمية :
- مع تطور الذكاء الاصطناعي القادر على “محاكاة” شخصية المتوفى، ستنشأ تحديات جديدة تتعلق بالهوية، الحقوق الفكرية، والمشاعر الإنسانية.
2- الأمن السيبراني :
- خطر القرصنة والاختراق يظل قائمًا، ما يتطلب وضع آليات متقدمة لحماية الحسابات الرقمية للمتوفين.
3- صعوبة وضع قواعد موحدة :
- اختلاف الأنظمة القانونية والثقافات الدينية والأخلاقية يجعل من الصعب وضع قواعد عالمية موحدة لإدارة الذكريات الرقمية بعد الوفاة.
ثامناً: مقترحات تشريعية لحماية الذكريات الرقمية
- الاعتراف القانوني بالوصية الرقمية كوثيقة ملزمة تحدد مصير الحسابات بعد الوفاة.
- إدراج الذكريات الرقمية ضمن التركة بحيث يمكن توريثها وفق القواعد القانونية أو الشرعية.
- إلزام الشركات الرقمية بوضع سياسات واضحة لإدارة الحسابات بعد الوفاة.
- تجريم إساءة استخدام بيانات المتوفى باعتبارها انتهاكًا لكرامته وسمعته.
- تأسيس هيئات وطنية مختصة بحماية الحقوق الرقمية للمتوفين.