الشاهد وطرق سماع الشهادة

تُعدّ الشهادة من أقدم وسائل الإثبات التي عرفها الإنسان منذ نشأة المجتمعات المنظمة، وقد أولتها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية أهمية بالغة لما لها من دور في إظهار الحقيقة وتحقيق العدالة. فالشاهد هو عين العدالة ولسانها، إذ يعتمد عليه القاضي في تكوين اقتناعه وإصدار حكمه في العديد من القضايا المدنية والجنائية.
ولذلك حرص المشرّع في القوانين الحديثة على تنظيم إجراءات سماع الشهود بدقة، محدداً الشروط الواجب توافرها في الشاهد، والضوابط التي تُراعى عند أداء الشهادة، والطرق التي تُسمع بها أمام القضاء.

تهدف هذه المقالة إلى تحليل مفهوم الشاهد والشهادة، وبيان الأساس القانوني والشرعي لها، واستعراض الطرق المختلفة لسماع الشهادة أمام المحاكم، مع الإشارة إلى أهم الضمانات القانونية المقررة لحماية الشاهد ومنع التلاعب بشهادته.

أولاً: الإطار المفاهيمي للشاهد والشهادة

  • تُعد الشهادة من أقدم وسائل الإثبات في الأنظمة القانونية، وقد احتلت مكانة جوهرية في تحقيق العدالة وإظهار الحقيقة،
  • إذ تُسهم في نقل وقائع الجريمة أو النزاع من عالم الغيب إلى عالم المشاهدة والإثبات.
  • ولأجل ذلك، أولت التشريعات القديمة والحديثة تنظيم الشهادة عناية خاصة، لما تمثله من عنصر مؤثر في تكوين قناعة القاضي وإصدار الأحكام القضائية.

في اللغة:

  • الشهادة مشتقة من الجذر “شَهِدَ”، أي حضر وأخبر بما علمه أو رآه. والشاهد هو من يؤدي الشهادة أو من حضر الواقعة.

في الاصطلاح القانوني:

  • هي إخبار الشخص أمام القضاء بما رآه أو سمعه أو أدركه بإحدى حواسه عن واقعة معينة محل نزاع بين الأطراف.
  • أما الشاهد فهو الشخص الذي يُستدعى للإدلاء بأقواله أمام المحكمة حول وقائع علم بها بحكم مشاهدته أو سماعه أو إدراكه لها بأي وسيلة حسية.

2. التمييز بين الشهادة والاعتراف والدليل الفني :

  • تختلف الشهادة عن الاعتراف من حيث إن الشهادة تصدر من شخص غير الخصم، بينما الاعتراف هو إقرار من أحد الخصوم على نفسه.
  • كما تختلف عن الدليل الفني الذي يعتمد على الخبرة الفنية أو العلمية، في حين أن الشهادة تقوم على الإدراك الشخصي المباشر للواقعة.

3. الأساس الشرعي للشهادة :

الشهادة من أعظم الواجبات التي حضّ عليها الإسلام، إذ قال تعالى:

  • “وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ” (الطلاق: 2)،وقال أيضاً:“وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ” (البقرة: 283).
  • فالقرآن والسنة جعلا الشهادة عبادة وقربة إلى الله، لأنها وسيلة لإحقاق الحق وردع الظلم. ولهذا وضع الفقه الإسلامي شروطاً دقيقة في الشهود من حيث العدالة والضبط والصدق.

ثانياً: شروط الشاهد وصلاحيته لأداء الشهادة

  • حتى تكون الشهادة مقبولة، يجب أن تتوافر في الشاهد شروط معينة تضمن صدق أقواله وحياده، ويمكن تصنيفها إلى شروط شخصية وشروط موضوعية.

1. الشروط الشخصية للشاهد

  • الشروط الشخصية هي الصفات التي يجب أن تتوافر في الشاهد ليكون صالحًا للإدلاء بالشهادة أمام القضاء، وهي تتعلق بشخصه وصفاته الذاتية، لا بمضمون شهادته أو موضوعها.
    وقد اتفقت معظم التشريعات والأنظمة القضائية على مجموعة من هذه الشروط، أهمها: الأهلية، العدالة، الحياد، والقدرة على الإدراك والتعبير. وفيما يلي تفصيل كل شرط:

أ. الأهلية القانونية :

  • يُشترط أن يكون الشاهد متمتعاً بالأهلية القانونية الكاملة، أي أن يكون عاقلاً بالغاً راشداً، لأن فاقد الأهلية لا يُعتد بأقواله.
  • في الفقه الإسلامي، لا تُقبل شهادة الصبي غير المميز، أما الصبي المميز فتُقبل شهادته في بعض المسائل كالجراحات الصغيرة.

ب. العدالة وحسن السيرة :

  • العدالة هي أهم شرط في الشاهد، وتعني أن يكون مستقيماً غير مرتكب للكبائر ولا مُصرٍّ على الصغائر.
  • وفي القوانين الوضعية الحديثة، يُنظر إلى “السمعة والسلوك” كمعيار للثقة في أقوال الشاهد.

ج. عدم المصلحة في النزاع :

  • لا تُقبل شهادة من له مصلحة مباشرة في الدعوى، لأن المصلحة قد تؤثر في حياد الشاهد وتجرده.

2. الشروط الموضوعية للشهادة

  • الشروط الموضوعية هي تلك التي تتعلق بمضمون الشهادة نفسها لا بشخص الشاهد.
  • فحتى وإن كان الشاهد كامل الأهلية وعادلًا ومحايدًا، فإن شهادته لا تكون مقبولة قانونًا إلا إذا توفرت فيها شروط موضوعية تتعلق بطبيعة الواقعة المشهود عليها،
  • وطريقة إدراكها، ومدى ارتباطها بالدعوى.
  • وهذه الشروط هي التي تضمن أن تكون الشهادة صادقة، صالحة للاستدلال بها أمام القضاء، وتحقق الغاية من سماعها وهي الوصول إلى الحقيقة.

أ. أن تكون الشهادة عن علم مباشر :

  • يشترط أن يكون ما يشهد به الشاهد قد علمه بنفسه عن طريق إحدى الحواس (الرؤية، السماع، اللمس…) لا عن طريق النقل أو السماع من الغير.

ب. أن تتعلق الشهادة بواقعة محددة :

  • يجب أن تكون الشهادة حول وقائع معينة محددة في الزمان والمكان، وألا تكون غامضة أو عامة.

ثالثاً: الإجراءات القانونية لسماع الشهادة

  • نظّم قانون الإجراءات المدنية والجنائية في أغلب الدول العربية طرق سماع الشهادة بدقة، حرصاً على ضمان نزاهة القضاء وتحقيق العدالة.
  • وتشمل هذه الإجراءات استدعاء الشاهد، وأداء اليمين، وسماع أقواله، وتدوين الشهادة في المحضر.

1. استدعاء الشاهد

يتم استدعاء الشاهد بناءً على طلب الخصوم أو من تلقاء المحكمة إذا رأت ضرورة لذلك لإظهار الحقيقة.
يُبلّغ الشاهد بورقة رسمية تُعرف بـ”التكليف بالحضور”، تُحدد فيها الجلسة والمكان والتاريخ.

وفي حالة تخلف الشاهد دون عذر مشروع، يجوز للمحكمة أن تأمر بإحضاره جبراً أو أن تفرض عليه غرامة مالية.

2. أداء اليمين القانونية

قبل الإدلاء بالشهادة، يُلزم القانون الشاهد بأداء اليمين التالية:

  • “أقسم بالله العظيم أن أقول الحق، ولا أقول سوى الحق.”
  • ويهدف أداء اليمين إلى تعزيز صدق الشاهد وإشعاره بجسامة مسؤوليته أمام الله والقانون.
  • ومن يمتنع عن أداء اليمين لا تُقبل شهادته مطلقاً.

3. إدلاء الشاهد بأقواله

  • إدلاء الشاهد بأقواله يُعد من أهم المراحل في إجراءات سماع الشهادة، فهو المرحلة التي تُترجم فيها الحقيقة التي يملكها الشاهد إلى أقوال يمكن للمحكمة أن تستند إليها في تكوين قناعتها وإصدار حكمها.
  • وتُعتبر أقوال الشاهد من أهم وسائل الإثبات في الدعوى سواء كانت مدنية أو جنائية،
  • لذلك يُحيط القانون هذه المرحلة بعدة ضمانات وشروط تضمن صدق الشهادة ودقتها وعدالتها. ويمكن تناول موضوع إدلاء الشاهد بأقواله من خلال المحاور التالية:

أ. طريقة السؤال :

  • يُسمح للقاضي والخصوم بطرح الأسئلة على الشاهد بشرط أن تكون متعلقة بالواقعة محل النزاع، وأن تُطرح بطريقة لائقة لا تهدف إلى الإرباك أو الإيحاء بالإجابات.

ب. تسجيل الشهادة :

  • يُدوّن كاتب الجلسة أقوال الشاهد نصاً في محضر الجلسة، ويُوقّع عليها الشاهد والقاضي وكاتب الجلسة بعد قراءتها عليه للتأكد من صحتها.

4. مناقشة الشهود (الاستجواب والمواجهة)

  • من حقوق الدفاع الجوهرية أن يُتاح للخصم مناقشة الشاهد ومواجهته بما قد يناقض أقواله.
  • وتُعدّ المواجهة بين الشهود من الوسائل الفعالة في كشف التناقضات أو الزيف في الشهادة.

5. تقدير المحكمة للشهادة

القاضي غير ملزم بالأخذ بأقوال الشهود كلها، بل له سلطة تقديرية مطلقة في وزن الشهادة وتقييمها مع باقي الأدلة.
وقد يطرح القاضي شهادة شاهد إذا ثبت أنها مشوبة بالتناقض أو المبالغة أو المصلحة.

رابعاً: طرق سماع الشهادة أمام القضاء

  • طرق سماع الشهادة تختلف باختلاف طبيعة الدعوى ووسائل التقنية المتاحة. ويمكن تصنيفها إلى الطرق التقليدية والطرق الحديثة.

1. الطرق التقليدية 

  • الطرق التقليدية في سماع الشهادة تُعد من أقدم الوسائل التي اعتمدت عليها الأنظمة القضائية في مختلف العصور،
  • وهي الوسائل التي كانت وما زالت تُستخدم في معظم المحاكم حتى اليوم، وإن كانت
  • بعض الدول قد طورتها بوسائل إلكترونية حديثة. وتعتمد هذه الطرق على الحضور الشخصي للشاهد أمام القاضي أو المحكمة والإدلاء بالأقوال شفهيًا،
  • وفقاً لإجراءات محددة تضمن سلامة العدالة وصحة الإثبات.
  • فيما يلي تفصيل شامل للطرق التقليدية في سماع الشهادة من حيث مفهومها، وإجراءاتها، ومزاياها، وعيوبها، وضماناتها القانونية:

أ. سماع الشهادة حضورياً في المحكمة :

  • وهي الطريقة الأكثر شيوعاً، حيث يحضر الشاهد إلى قاعة المحكمة ويدلي بأقواله أمام القاضي والخصوم.

ب. سماع الشهادة في محل إقامة الشاهد :

  • في حال تعذر حضور الشاهد لأسباب صحية أو أمنية، يجوز للمحكمة أن تنتقل إلى محل إقامته أو تكلف قاضياً آخر بسماع شهادته.

ج. الإنابة القضائية :

  • عندما يكون الشاهد في منطقة قضائية أخرى، تُرسل المحكمة إنابة قضائية إلى المحكمة المختصة في محل إقامته لسماع أقواله.

2. الطرق الحديثة (التقنية)

  • الطرق الحديثة أو الطرق التقنية في سماع الشهادة تمثل مرحلة متقدمة في تطور النظم القضائية،
  • جاءت استجابةً للتغيرات التكنولوجية المتسارعة وللحاجة إلى تسريع إجراءات التقاضي وتيسير الوصول إلى العدالة.

أ. سماع الشهادة عبر الاتصال المرئي (الفيديو كونفرنس) :

  • أصبح هذا الأسلوب شائعاً في العديد من الدول، خاصة بعد التطورات التقنية وجائحة كورونا.
  • يُتيح هذا النظام سماع الشهود عن بُعد بطريقة آمنة تضمن التحقق من الهوية وتسجيل الجلسة كاملة.

ب. الشهادة المكتوبة أو الموثقة إلكترونياً :

  • في بعض القضايا المدنية، يمكن قبول الشهادة في صورة إفادة مكتوبة أو موقّعة إلكترونياً إذا اعتمدها القاضي واطمأن لصحتها.

خامساً: حجية الشهادة في الإثبات

  • تُعتبر الشهادة دليلاً من أدلة الإثبات، لكن قوتها تختلف بحسب نوع الدعوى وطبيعة الواقعة.

1. في القضايا الجنائية :

  • تُعدّ الشهادة من أهم الأدلة في القضايا الجنائية، إذ يمكن أن تكون الأساس في إدانة المتهم أو براءته،
  • بشرط أن تكون الشهادة مطابقة للواقع ومؤيدة ببعض القرائن الأخرى.

2. في القضايا المدنية :

  • تُقيّد الشهادة في المواد المدنية ببعض الحدود، كألا تُقبل في إثبات ما يخالف أو يجاوز ما هو ثابت بالكتابة، إلا في حالات استثنائية يقدّرها القاضي.

سادساً: الحماية القانونية للشهود

لحماية الشهود من الترهيب أو الانتقام، قررت التشريعات الحديثة عدة ضمانات أهمها:

  1. سرية بيانات الشاهد في بعض القضايا الحساسة.
  2. توفير الحماية الأمنية للشهود في القضايا الخطيرة مثل الإرهاب أو الفساد.
  3. منع التأثير على الشاهد أو الاتصال به أثناء سير المحاكمة.
  4. عدم مساءلة الشاهد جنائياً عن أقواله إذا أدلى بها بحسن نية.

سابعاً: الجزاءات المقررة على الشاهد

تُفرض جزاءات قانونية على الشاهد في حال مخالفته لواجباته القانونية، ومن أبرزها:

  1. الامتناع عن الحضور أو الشهادة: يجيز القانون تغريم الشاهد، وقد يُجبر على الحضور جبراً.
  2. الامتناع عن أداء اليمين: لا تُقبل شهادته مطلقاً ويُعتبر متخلفاً عن أداء واجبه القانوني.
  3. الإدلاء بشهادة زور: تُعدّ جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن، لما تمثله من اعتداء على العدالة.وتُضاعف العقوبة إذا ترتب على شهادة الزور صدور حكم بالإعدام أو السجن المؤبد.

ثامناً: الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية للشهادة

  • الشهادة ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي واجب أخلاقي وديني، إذ يُعتبر كتمان الشهادة نوعاً من الخيانة للحق.
  • والمجتمع الذي يشيع فيه الكذب في الشهادة هو مجتمع مهدد في قيمه وعدالته، لأن العدالة لا تقوم إلا على الصدق والأمانة.
  • كما أن احترام الشهود وتقدير دورهم يُعزز ثقة المواطنين بالقضاء ويشجعهم على المساهمة في إظهار الحقيقة دون خوف أو تردد.

تاسعاً: التجارب الدولية في تنظيم سماع الشهادة

  • شهدت الأنظمة القانونية في مختلف دول العالم تطورًا ملحوظًا في تنظيم سماع الشهادة،
  • سواء من حيث ضمان نزاهة الشاهد وصدق أقواله، أو من حيث تطوير الوسائل والإجراءات التي تتيح الاستماع إلى الشهادات بطرق أكثر دقة وفعالية وعدالة.
  • ويظهر هذا التطور بوضوح في التجارب المقارنة بين الأنظمة الأنجلوسكسونية (مثل بريطانيا والولايات المتحدة) والأنظمة اللاتينية (مثل فرنسا ومصر)،
  • وكذلك في التجارب الدولية كالمحاكم الجنائية الخاصة والمحكمة الجنائية الدولية.

1. في النظام الأنجلوسكسوني (القانون الإنجليزي والأمريكي) :

  • يُمنح الدفاع حقاً كاملاً في استجواب الشهود ومواجهتهم أمام هيئة المحلفين، وتُعتبر الشهادة الحية (oral testimony) هي الأساس في الإثبات.

2. في النظام اللاتيني (القانون الفرنسي والمصري) :

  • يمنح القاضي دوراً محورياً في توجيه الأسئلة للشهود وتقدير قيمة شهاداتهم، ويُسمح بالإنابة وسماع الشهادة كتابة في حالات معينة.

3. في النظام الإسلامي :

  • اعتمد الفقه الإسلامي على مبدأ العدالة والتثبت، واشترط العدد والنوع في الشهادة بحسب طبيعة القضايا (كشهادة رجلين أو رجل وامرأتين في المعاملات، أو أربع نساء في قضايا النساء الخاصة).

 

 

يتمتع مكتبنا بخبرة واسعة في مختلف أنواع القضايا والمسائل القانونية، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكل من يبحث عن حلول قانونية دقيقة وفعالة. سواء كنت تواجه قضية شخصية أو تجارية، أو تحتاج إلى توجيه قانوني متخصص، فإن فريق المحامين لدينا على استعداد لتقديم الدعم الكامل لك.

لمعرفة المزيد عن خدماتنا أو لحجز استشارة قانونية، يمكنك التواصل معنا عبر الضغط على الرابط التالي، أو ملء النموذج أدناه وسنقوم بالرد عليك في أقرب وقت ممكن:

[“contact-form-7 id=”218″ title=”اتصل بنا”]