الشكلية في القانون وتحولها لمبدأ سلطان الإرادة

الشكلية في القانون كانت لفترة طويلة عنصرًا أساسياً في صحة العقود والمعاملات، حيث تشترط القوانين في بعض الحالات وجود شكل معين للعقد (كتحريره كتابة، أو توثيقه أمام جهة رسمية) كي يكون صحيحًا ونافذًا. لكن مع تطور الفكر القانوني، بدأت النزعة تتجه نحو تحرير الإرادة، وهو ما يُعرف بمبدأ “سلطان الإرادة”، الذي يقوم على أن رضا الأطراف هو جوهر العقد وأساسه، لا شكله.

تهدف هذه المقالة إلى استعراض تطور الشكلية في القانون وتحولها من مبدأ حاكم إلى قاعدة استثنائية في ظل سيادة مبدأ سلطان الإرادة، مع توضيح تطبيقاتهما في الواقع القانوني، والموازنة بين حماية الأفراد وتنمية المعاملات.

أولاً: تعريف الشكلية في القانون

  • الشكلية تعني التزام الأطراف بإفراغ التصرف القانوني في صورة أو شكل معين نص عليه القانون، كأن يكون مكتوبًا أو موثقًا. فالعقد الشكلي لا ينعقد إلا بتوافر هذا الشكل.

 أنواع الشكلية :

  • الشكلية كشرط انعقاد: لا يقوم العقد إلا بها. مثل عقد الزواج الرسمي أو بيع العقار.

  • الشكلية كشرط نفاذ: العقد صحيح لكنه لا يُنتج أثره إلا بالشكل.

  • الشكلية كشرط إثبات: الشكل هنا لا يتعلق بالصحة، بل بإثبات التصرف.

 الغاية من الشكلية :

  • حماية الطرف الضعيف

  • تحذير المتعاقدين من خطورة التصرف

  • تسهيل الإثبات

  • ضمان الاستقرار القانوني

ثانيًا: مبدأ سلطان الإرادة وتحرير التعاقد

  • مبدأ سلطان الإرادة هو أحد المبادئ الأساسية التي قامت عليها النظرية التقليدية للعقد في القانون المدني،
  • ويُقصد به أن الإرادة الحرة للإنسان كافية وحدها لإنشاء التصرف القانوني،
  • لا سيما العقود، دون الحاجة إلى شكل معين أو إلى تدخل الدولة أو السلطات العامة.
  • بمعنى آخر، فإن الشخص يستطيع بمجرد التعبير عن إرادته بطريقة واضحة ومباشرة أن يُنشئ الالتزام القانوني ويُرتب الآثار المترتبة عليه،
  • ما دام هذا التعبير صدر عن أهلية قانونية، ولم يتضمن ما يخالف النظام العام أو الآداب العامة.
  • وقد ارتبط هذا المبدأ ارتباطًا وثيقًا بالاتجاه الليبرالي في الفكر القانوني والاقتصادي، الذي يعتبر أن الفرد هو الأقدر على تحديد مصالحه وتدبير شؤونه القانونية بنفسه.

 تعريف مبدأ سلطان الإرادة :

  • يقصد به أن الإرادة الحرة الواعية للأطراف تكفي لإنشاء الالتزام القانوني دون الحاجة إلى شكل محدد. ويُعد هذا المبدأ من ركائز المدرسة الكلاسيكية في القانون المدني.

تطور المبدأ في الفكر القانوني :

  • ظهر مبدأ سلطان الإرادة مع فكر الثورة الفرنسية، الذي رفع شعار “حرية التعاقد”. وتم تبنيه في القوانين المدنية الكلاسيكية كالقانون المدني الفرنسي والمصري،
  • لكن لم يكن مطلقًا، فقد خضع لتقييد تدريجي مع تطور المجتمعات.

 مظاهر سلطان الإرادة في العقود :

  • حرية اختيار نوع العقد

  • حرية تحديد شروط العقد

  • حرية إنهاء العقد

  • تجاوز الشكل لصالح الرضا الحقيقي

ثالثًا: تطور العلاقة بين الشكلية وسلطان الإرادة

  • مرت العلاقة بين الشكلية وسلطان الإرادة بمراحل تطور متعددة،
  • تعكس التحول العميق في الفكر القانوني من التشدد الشكلي إلى الإعلاء من حرية الفرد في التعاقد. وفيما يلي عرض تحليلي لتلك المراحل التاريخية والفكرية:

 المرحلة الأولى: هيمنة الشكلية :

  • في العصور القديمة والرومانية، كانت الشكلية جوهر العقود.

  • لم يكن يُعتد بالإرادة إلا إذا جاءت وفق الشكل المطلوب.

 المرحلة الثانية: صعود سلطان الإرادة :

  • في القرن 19، بدأت الإرادة تُعتبر المصدر الأصيل للالتزام.

  • تحررت العقود من قيود الشكل إلا في حالات استثنائية.

 المرحلة الثالثة: التوازن الحديث :

  • الاتجاه الحديث في القانون يميل إلى التوازن:

    • الإبقاء على الشكلية عند الضرورة (حماية المستهلك، العقود المصرفية، العقارات).

    • إطلاق سلطان الإرادة في المعاملات اليومية والعقود التجارية.

    • تعزيز الرضا الموثق (مثلاً عبر التوقيع الإلكتروني).

رابعًا: تطبيقات قانونية وتحليل قضائي

  • يظهر التفاعل العملي بين الشكلية وسلطان الإرادة بوضوح في التطبيقات القانونية المختلفة،
  • حيث تنعكس هذه العلاقة من خلال القوانين والتشريعات، وتظهر بجلاء في اجتهادات المحاكم.
  • وفي هذا القسم، نتناول أبرز التطبيقات القانونية التي توضح كيف تتداخل أو تتقابل الشكلية مع الإرادة، مع تحليل مواقف القضاء منها.

 العقود العقارية :

  • ما زالت العقود العقارية تخضع لشكلية صارمة لحماية الملكية وتثبيت الحقوق، حيث يشترط التسجيل في الشهر العقاري لتمام نقل الملكية.

 عقد الزواج :

  • رغم وجود الإرادة، يشترط القانون إبرام الزواج في صورة رسمية لتحقيق أهداف الحماية القانونية والنسب.

 التوقيع الإلكتروني :

  • الشكل الحديث الذي يحقق شكلية التوثيق ويعزز سلطان الإرادة. القوانين الحديثة (مثل قانون المعاملات الإلكترونية) تعتبره صحيحًا وملزمًا.

 اجتهادات القضاء :

  • المحاكم توازن بين الشكلية والعدالة، فتلغي العقد إذا غابت الشكلية متى كانت جوهرية، لكنها تُقرُّ العقد أحيانًا إذا ثبتت الإرادة بوضوح، ولو غابت بعض الشكليات الشكلية غير الجوهرية.

خامسًا: الموازنة بين الحماية القانونية وحرية التعاقد

  • تُعد الموازنة بين الحماية القانونية وحرية التعاقد أحد أبرز التحديات التي تواجه المشرِّعين والقضاة، خاصة في ظل تطور المجتمع وتنوع العلاقات التعاقدية.
  • فبينما يُعد مبدأ سلطان الإرادة ركيزة أساسية في النظام القانوني المدني، إلا أن إطلاقه على عواهنه قد يؤدي إلى استغلال أو ظلم،
  • وهو ما استدعى تدخل القانون لإرساء نوع من الحماية القانونية، خصوصًا في العقود غير المتكافئة.

 مزايا الشكلية :

  • تحمي الطرف الضعيف

  • تمنع التسرع

  • تثبت التصرفات قانونيًا

 عيوب الشكلية :

  • قد تُعيق حرية التعاقد

  • تُعقّد المعاملات البسيطة

  • تُعرض العقود للبطلان الشكلي رغم صحة الإرادة

 متى نتمسك بالشكل؟

  • في المعاملات الخطيرة (نقل الملكية – الزواج – الكفالات البنكية)

  • عندما يكون أحد الأطراف ضعيفًا أو غير مدرك للأثر القانوني

سادسًا: آفاق مستقبلية في ظل التطور الرقمي

  • مع تسارع وتيرة التطور التكنولوجي والتحول الرقمي في مختلف مناحي الحياة،
  • باتت العلاقات القانونية والتعاقدية تواجه تحديات جديدة وفرصًا غير مسبوقة، خاصة فيما يتعلق بتفاعل الشكلية وسلطان الإرادة.
  • فما هي هذه الآفاق المستقبلية؟ وكيف تؤثر التكنولوجيا الرقمية على مفهوم العقد ومبدأ الإرادة؟ نعرض فيما يلي أهم الاتجاهات والتحديات.

الشكلية الرقمية :

أصبحت المعاملات الإلكترونية والتعاقد عن بعد مسألة واقعية، وهو ما فرض الحاجة إلى تطوير مفهوم الشكلية، ليشمل الصور الحديثة مثل:

  • التوقيع الرقمي

  • العقود المبرمة عبر البريد الإلكتروني

  • العقود الذكية (Smart Contracts)

 سلطان الإرادة في البيئة الرقمية :

  • توفر المنصات الرقمية بيئة مرنة لتطبيق مبدأ الإرادة

  • ضرورة وجود ضوابط تحمي المستهلكين من الغبن وسوء الاستخدام

 تحديات الحماية القانونية :

  • صعوبة إثبات الرضا الإلكتروني

  • تباين القوانين بين الدول

  • الحاجة لتشريعات موحدة تنظّم الشكلية الرقمية

سابعًا: الفقه القانوني بين الشكل والإرادة

  • يمثل الفقه القانوني منبعًا مهمًا لفهم وتحليل العلاقة بين الشكلية ومبدأ سلطان الإرادة،
  • حيث يقدم مناظرات وآراء متباينة تعكس عمق وتعقيد هذا الموضوع القانوني. وفيما يلي استعراض لأبرز اتجاهات الفقه في هذا المجال.

 آراء تؤيد الشكلية :

  • الفقه التقليدي يرى أن الشكلية تحقق الأمن القانوني وتمنع النزاعات.

 آراء تؤيد سلطان الإرادة :

  • الفقه الحديث يدعو إلى تحرير الإرادة، ويعتبر الشكلية أداة لا غاية.

 الاتجاه التوفيقي :

  • يرى أن الشكلية يجب أن تُستخدم بحكمة، وفق نوع العقد وظروف الأطراف.

 

يتمتع مكتبنا بخبرة واسعة في مختلف أنواع القضايا والمسائل القانونية، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكل من يبحث عن حلول قانونية دقيقة وفعالة. سواء كنت تواجه قضية شخصية أو تجارية، أو تحتاج إلى توجيه قانوني متخصص، فإن فريق المحامين لدينا على استعداد لتقديم الدعم الكامل لك.

لمعرفة المزيد عن خدماتنا أو لحجز استشارة قانونية، يمكنك التواصل معنا عبر الضغط على الرابط التالي، أو ملء النموذج أدناه وسنقوم بالرد عليك في أقرب وقت ممكن:

[contact-form-7 id=”218″ title=”اتصل بنا”]