المساهمة في الجريمة

المساهمة في الجريمة تعد من المفاهيم الأساسية في الفقه الجنائي والتشريع، لأنها تُعالج ظاهرة التكاتف والتعاون بين أكثر من شخص في تحقيق نتيجة إجرامية واحدة. ففي حالات كثيرة، لا يكون الفاعل المادي وحده هو المسؤول عن الفعل الإجرامي؛ بل يوجد أشخاص آخرون أسهموا بوسائل متعددة — سواء بتحريض أو تهيئة أو مساعدة أو اتفاق — مما يثير أسئلة قانونية عميقة عن مدى مسؤولية كل منهم، وعن كيفية توزيع العقاب بين المتورطين.

تهدف هذه المقالة إلى تقديم دراسة متكاملة حول المساهمة في الجريمة: تعريفها، أشكالها، أركانها، معايير القياس لتحديد المسؤولية الجنائية، الفروق بين المساهمة والاشتراك والوقاية من الوقوع في المساءلة، بالإضافة إلى استعراض تجريبي للتشريعات المقارنة والأحكام القضائية النموذجية. كما تُختتم المقالة بتوصيات عملية وقانونية للمشرّع والمحامين والقضاة.

تعريف المساهمة في الجريمة

المساهمة في الجريمة هي فعل يؤدي إلى تسهيل أو دعم ارتكاب جريمة لم يرتكبها المساهم بنفسه بصورة فعلية، لكنه كان سببًا في تهيئة الظروف أو توجيه الفاعل أو تزويده بالأدوات أو المعلومات اللازمة لارتكاب الجريمة. ويمكن تعريفها اصطلاحًا: “كل عمل أو امتناع يقوم به شخص آخر غير الفاعل الأصلي من شأنه أن يُيسر ارتكاب الجريمة أو يزيد من احتمالات وقوعها، ويكون القصد الجنائي موجودًا لدى هذا الشخص حيال إسهامه في نتيجة إجرامية”.

ينبغي التمييز بين المساهمة والشروط الأخرى مثل المشاركة في الفعل نفسه والاشتراك في التآمر، فكلها مفاهيم قريبة لكنها قابلة للتمييز من الناحية الجنائية.

أشكال المساهمة

يمكن تقسيم المساهمة في الجريمة إلى أشكال رئيسية أربعة:

  1. التحريض (Incitement / تحريضاً): ويقصد به دفع شخص آخر على ارتكاب جريمة من خلال التشجيع أو الإغراء أو إعطاء الأوامر أو التوجيهات. ويتطلب التحريض وجود قصد من المحرض بأن يؤدى تحريكه إلى وقوع الجريمة.
  2. المساعدة المادية (Aiding / معاونة): مثل تزويد الفاعل بالأدوات أو الوسائل المادية (أسلحة، مركبات، مواد متفجرة)، أو تهيئة المكان أو وضع العوائق التي تيسر ارتكاب الجريمة.
  3. المساعدة المعنوية أو المعرفية (Assistance / دعم معلوماتي): تزويد الفاعل بمعلومات تقنية أو خطط أو رسومات أو نصائح تفصيلية تُسهل تنفيذ الجريمة.
  4. التآمر أو الاتفاق المسبق (Conspiracy / اتفاق جنائي): وهو الاتفاق بين شخصين أو أكثر على تنفيذ جريمة مستقبلية، حتى وإن لم تُنفَّذ الجريمة في نهاية المطاف، فالاتفاق بحد ذاته قد يكون مجرَّمًا أو يؤدي إلى مساءلة عند تحقق أفعال تنفيذية .

ملاحظة: قد تتداخل هذه الأشكال، كأن يتحرض شخص ويزود الفاعل أيضًا بالوسائل الفنية لتنفيذ الجريمة.

أركان المساهمة

لتسبيب مسؤولية جنائية عن المساهمة لا بد من توافر أركان مادية ومعنوية.

الركن المادي :

  • هو الفعل أو الامتناع الخارج عن المساهم والواقع بالفعل الذي أَسهم في تنفيذ الجريمة.
  • ويشمل ذلك تزويد الأدوات، المساعدة اللوجستية، إعطاء الأوامر، أو القيام بأفعال تُعتبر جزءًا من خطة التنفيذ.
  • الركن المادي لا يشترط أن يكون قُربًا ماديًا من الفاعل أو مكان الجريمة؛
  • فقد تكون المساهمة من بُعد (مثلًا عبر الإنترنت أو بتقديم أموال) لكنها يجب أن تكون مساهمة فعلية ومحددة.

الركن المعنوي :

  • ويتطلب وجود نية (قصد جنائي) لدى المساهم بأن يسهم في ارتكاب الجريمة.
  • القصد هنا قد يكون مباشرًا (يعلم أن مساهمته ستؤدي بالضرورة إلى وقوع الجريمة ويريد ذلك) أو شبه مباشر/عمد مقصود (يعلم بوجود احتمال واقعة ويقبله).
  • تختلف التشريعات في تحديد مستوى القصد المطلوب: هل يكفي القبول بالنتيجة (الرضا) أم يلزم أن يكون هناك قصد إيجابي؟
  • كثير من القوانين تتطلب توافر العلم بأن الفعل يساعد على ارتكاب جريمة وأن المساهم يتهيأ لحدوثها.

التمييز بين المساهمة والاشتراك والاشتغال بالجريمة

  • المساهم: لا ينفذ الفعل الإجرامي بنفسه لكنه يسهل وقوعه.
  • المشترك أو الشريك في الجرائم (الفاعل الأصلي): هو الذي يباشر تنفيذ الفعل المادي الذي يكوِّن الركن المادي للجريمة.
  • الاشتراك/الشراكة: يُشير غالبًا إلى وجود شريك أو شركاء يشاركون في الفعل ذاته سواءً بالتخطيط أو التنفيذ.

التشريعات غالبًا ما تفرق بين من ارتكب الفعل والذين ساعدوه، ومن ثم تختلف العقوبات بحسب درجة التورط ونوعية المساهمة.

معايير الإثبات

إثبات المساهمة يتطلب عادةً أدلة تثبت:

  1. وجود فعل مادي للمساهم كان ذا أثر في تسهيل الجريمة.
  2. أن المساهم كان على علم بأن هذا الفعل قد يُسهم في إحداث الجريمة (قصد جنائي).
  3. وجود علاقة سببية بين فعل المساهم ووقوع الجريمة — ليست بالضرورة علاقة سبب نتيجة مطلقة، لكنها علاقة معنوية أو مادية تؤدي إلى تمكن الفاعل من تنفيذ الجريمة.

تنعكس صعوبة الإثبات في حالات المساهمة غير المادية (مثل المشورة الهاتفية أو المشاعر التحريضية عبر الإنترنت)، حيث تحتاج النيابة إلى جمع أدلة رقمية، تسجيلات، شهود، مستندات تُظهر النية.

نماذج تطبيقية وأمثلة

  1. تزويد مسدس لشخص ارتكب جريمة قتل: هنا يعتبر المزوِّد مساهماً مادياً إذا ثبت أنه زوده عمدًا، والقصد واضح إذا كان يعلم أن السلاح سيستخدم في جريمة.
  2. شخص يدير شبكة تلاعب احتيالية عبر الإنترنت: المدير الذي يضع البنية التحتية أو يقدّم قواعد بيانات عملاء ويعطي الخطط الإجرائية يندرج تحت المساهمة المعنوية والمادية.
  3. التحريض على الشغب: منشورات أو رسائل تشجع على اقتحام منشأة أو الاعتداء على مواطنين قد تُعد تحريضًا ومساهمة جنائية إذا ارتكبت الفعالية.
  4. اتفاق على سرقة مستقبلية: حتى لو لم تُنفذ السرقة، قد يقتصر القانون في بعض الدول على تجريم الاتفاق إذا تحقق عنصر التنفيذ الجزئي (مثل شراء أدوات السرقة أو مراقبة الهدف).

المساهمة عبر الوسائل الرقمية والتحديات الحديثة

مع تطور التكنولوجيا وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت صور جديدة للمساهمة:

  • تقديم إرشادات إلكترونية: شروحات تفصيلية على الويب عن كيفية صنع متفجرات أو اختراق حسابات بنكية.
  • بيع أو توفير برمجيات خبيثة: مطور برامج يبيع برمجيات تُستخدم لسرقة بيانات.
  • منصات تمويل للجريمة: تحويل أموال عبر وسائل رقمية لشراء خدمات إجرامية.

هذه الحالات تفرض تحديات على الأدلة الرقمية والتحقيقات العابرة للحدود، وتستلزم تنسيقًا دوليًا وتحديث النصوص الجنائية.

المواقف التشريعية المقارنة 

تتنوع التشريعات حول العالم في كيفية تجريم المساهمة:

  • القانون الجزائي الفرنسي: يفرق بين “المساعدة” و”المشاركة”، ويعاقب المساعد استنادًا إلى القصد ودرجة المساهمة.
  • القانون الإنجليزي (common law): يعترف بمفهوم “aiding and abetting” و”conspiracy”، ويعتمد كثيرًا على السوابق القضائية.
  • القانون المصري/العربي: يتبنى مبادئ قريبة من الفقه الإسلامي والتشريع المدني المتأثر بالقوانين القارية؛ حيث تُسند المسؤولية في حالات التحريض والمساعدة، مع اختلافات في وصف الركن المعنوي ودرجات العقوبة.

من المهم ملاحظة أن صياغة النص الجنائي وتفسيرها يعتمدان على التوازن بين منع الإيذاء وحرية التعبير والتصرف، خصوصًا في حالات التحريض السياسي أو التعبير عبر الإنترنت.

أحكام قضائية ونماذج فقهية 

أصدرت المحاكم في دول عدة أحكامًا مهمة توضح نطاق المساهمة. من أهم المبادئ القضائية:

  • اشتراط القصد: كثير من الأحكام ترفض إدانة من قدم مساعدة عارضة دون علمه بأن استخدامها سيكون لارتكاب جريمة.
  • التمييز بين المشورة القانونية والدعم الجنائي: المشورة المهنية المشروعة لا تُعد مساهمة إذا كانت تهدف إلى حماية الحقوق داخل الإطار القانوني.
  • مبدأ التناسب في العقاب: يُراعى في تحديد العقوبة دور المساهم ومدى مشاركته في الجريمة.

(يمكن للمختصين أن يلجأوا لقاعدة سوابق محاكم بلدهم للاستشهاد بأحكام نموذجية طبقًا للحالات العملية)

الدفاعات القانونية المتاحة للمُتهمين بالمساهمة 

  1. الجهل بعدم الاستخدام الإجرامي: إثبات أن المساهم لم يعلم أو لم يقدر أن مساهمته ستستخدم لارتكاب جريمة.
  2. الاغتصاب بالتهديد (Coercion): إذا تم إجبار المساهم على المساعدة تحت تهديد مباشر بحياته أو سلامته، قد يُعفى من العقاب.
  3. الانسحاب الفعلي: في حالات الاتفاق أو التآمر، إذا انسحب الشخص قبل تنفيذ الفعل وكان انسحابه عمليًا ومعلنًا وقام بخطوات محققة لمنع وقوع الجريمة، قد يخفف عنه أو يعفى.
  4. العمل المشروع: إظهار أن الفعل له غرض قانوني مشروع (مثل بيع سلاح مرخص مع إجراءات قانونية سليمة).

الآثار الجنائية والمدنية 

  • إضافةً إلى المسؤولية الجنائية، قد تترتب مسؤولية مدنية على المساهم في جبر ضرر الضحية،
  • خصوصًا إذا ساهمت فعاليته في وقوع ضرر مادي أو معنوي. وقد تفرض المحاكم تعويضات أو إجراءات تكافلية.

آليات الوقاية والتوصيات التشريعية

لمواجهة مسألة المساهمة بفعالية، نقترح الآتي:

  1. توضيح النصوص الجنائية: تشريع نصوص واضحة تفرّق بين درجات المساهمة وتحدد الركن المعنوي المطلوب لكل نوع.
  2. تحديث القوانين الرقمية: إدماج نصوص خاصة بالمساهمة عبر الإنترنت والجرائم الإلكترونية وتتبع الأدلة الرقمية.
  3. تعزيز التعاون الدولي: تبادل المعلومات وملاحقة مرتكبي المساهمات العابرة للحدود.
  4. برامج توعية: تثقيف المجتمع حول مخاطر المشاركة في أعمال قد تبدو غير ضارة لكنها تُسهِم في جرائم.
  5. تدريب جهات التحقيق والقضاء: على كيفية التعامل مع الأدلة الرقمية وعمليات التتبع المالي.

 

يتمتع مكتبنا بخبرة واسعة في مختلف أنواع القضايا والمسائل القانونية، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكل من يبحث عن حلول قانونية دقيقة وفعالة. سواء كنت تواجه قضية شخصية أو تجارية، أو تحتاج إلى توجيه قانوني متخصص، فإن فريق المحامين لدينا على استعداد لتقديم الدعم الكامل لك.

لمعرفة المزيد عن خدماتنا أو لحجز استشارة قانونية، يمكنك التواصل معنا عبر الضغط على الرابط التالي، أو ملء النموذج أدناه وسنقوم بالرد عليك في أقرب وقت ممكن:

[“contact-form-7 id=”218″ title=”اتصل بنا”]