يُعدّ الطلاق من أخطر التصرفات القانونية والشرعية أثرًا على الأسرة والمجتمع، إذ يترتب عليه إنهاء رابطة الزواج وما ينتج عنها من حقوق والتزامات متبادلة بين الزوجين، فضلًا عن آثاره النفسية والاجتماعية على الأبناء. ولخطورة هذا التصرف، أحاطته الشريعة الإسلامية بضوابط دقيقة، وجعلته أبغض الحلال، كما قنّنته التشريعات العربية الحديثة بقيود إجرائية وقانونية صارمة. ومن هنا برزت أهمية الحديث عن حالات لا يقع فيها الطلاق، سواء من منظور فقهي أو قانوني، حمايةً للأسرة من التسرع، وصونًا للحقوق من الضياع.
تهدف هذه المقالة إلى بيان الحالات التي لا يعتد فيها بالطلاق شرعًا أو قانونًا، مع بيان الأسس الفقهية والقانونية لكل حالة، ومناقشة الخلاف الفقهي عند الاقتضاء، وربط ذلك بالواقع العملي في المحاكم العربية.
أولًا: مفهوم الطلاق وشروط وقوعه
الطلاق لغةً: الإرسال والترك. وشرعًا: حل رابطة الزواج بلفظٍ مخصوص أو ما يقوم مقامه، صادر من زوجٍ أهلٍ لذلك، مختارٍ، واعٍ لما يقول، قاصدٍ له.
شروط صحة ووقوع الطلاق :
اتفق الفقهاء على أن وقوع الطلاق يستلزم توافر جملة من الشروط، من أهمها:
- صدوره من زوجٍ مكلف (عاقل بالغ).
- أن يكون مختارًا غير مُكره.
- أن يكون واعيًا لما يقول، غير فاقدٍ للإدراك.
- أن يكون اللفظ صريحًا أو كناية مقرونة بالنية.
- أن يقع في زواجٍ صحيح قائم.
بانتفاء أحد هذه الشروط، يثور التساؤل حول صحة الطلاق ووقوعه من عدمه، وهو ما يقودنا إلى حالات لا يقع فيها الطلاق.
ثانيًا: الطلاق الصادر من غير مكلف
- يُشترط لوقوع الطلاق شرعًا وقانونًا أن يصدر من شخصٍ مكلف، أي تتوافر لديه أهلية الأداء الكاملة، والمتمثلة في العقل والبلوغ.
- فإذا صدر الطلاق من غير مكلف، انتفى أحد أركان صحته، فلا يُعتد به ولا تترتب عليه آثاره.
1. طلاق الصبي غير البالغ :
- أجمع الفقهاء على أن طلاق الصبي غير البالغ لا يقع، لعدم اكتمال أهليته الشرعية. فالصبي لا يُعد مكلفًا،
- وتصرفاته القولية التي تترتب عليها آثار خطيرة، كحل عقد الزواج، لا يُعتد بها.
2. طلاق المجنون :
- لا يقع طلاق المجنون جنونًا مطبقًا أو متقطعًا حال جنونه، لانعدام العقل، وهو مناط التكليف.
- فإذا طلق في حال جنونه فلا أثر لقوله، أما إذا طلق في حال إفاقته ووعيه، فيقع طلاقه.
- ويستند هذا الحكم إلى قاعدة فقهية أصيلة مفادها أن “التكليف منوط بالعقل”.
ثالثًا: الطلاق حال فقدان الإرادة أو الإدراك
- يُقصد بفقدان الإرادة أو الإدراك تلك الحالات التي يُقدم فيها الزوج على التلفظ بالطلاق دون أن يكون مختارًا اختيارًا حقيقيًا،
- أو دون أن يكون مدركًا لمعنى ما يقول وآثاره الشرعية والقانونية.
- وتُعد هذه الحالات من أهم الصور التي لا يقع فيها الطلاق، لاتصالها المباشر بأهلية الأداء والقصد، وهما ركنان جوهريان في صحة الطلاق.
1. الطلاق حال الإكراه :
- الإكراه هو حمل الإنسان على ما لا يريد، بتهديدٍ قادرٍ على إيقاع ضررٍ جسيمٍ حالٍّ، بحيث يفقد المكرَه حرية الاختيار.
2. حكم الطلاق تحت الإكراه :
- ذهب جمهور الفقهاء إلى أن طلاق المكره لا يقع، لانتفاء الرضا، واستدلوا بقول النبي ﷺ: «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه».
- بينما ذهب بعض الفقهاء إلى وقوعه، إلا أن الرأي الراجح فقهيًا، والمعمول به في كثير من القوانين العربية، هو عدم وقوعه.
3. الطلاق حال الغضب الشديد :
ميّز الفقهاء بين ثلاث درجات للغضب:
- غضب يسير لا يزيل الإدراك: يقع فيه الطلاق.
- غضب شديد يُغلق على صاحبه قصده دون أن يزيل وعيه كليًا: محل خلاف فقهي.
- غضب يُفقد الإدراك والتمييز: لا يقع فيه الطلاق.
4. الطلاق في الغضب المُغلق :
- إذا بلغ الغضب حدًّا يفقد معه الزوج وعيه وإدراكه لما يقول، فلا يقع طلاقه، لأنه في حكم فاقد العقل مؤقتًا.
رابعًا: الطلاق في حال السكر أو التخدير
يُعرف السكر بأنه فقدان القدرة على التحكم بالعقل والإدراك نتيجة تناول الخمر أو أي مادة مسكرة. واختلف الفقهاء في حكم طلاق السكران:
- ذهب الحنفية والمالكية إلى وقوعه، زجرًا له عن تعاطي المحرم.
- وذهب الشافعية والحنابلة، وقول معتبر عند المعاصرين، إلى عدم وقوعه إذا كان فاقدًا للتمييز والإدراك.
ومع تطور الفقه والقضاء، يُرجّح عدم وقوع طلاق السكران في حالة ثبوت فقدانه للإدراك، تحقيقًا لمقاصد الشريعة في حفظ الأسرة والأبناء.
ب- الطلاق تحت تأثير المخدرات أو الأدوية :
- إذا كان الزوج تحت تأثير مواد مخدرة أو أدوية نفسية تُذهب العقل أو تُضعف الإدراك، فلا يقع طلاقه،
- ويُقاس ذلك على حالة السكران والمجنون، بشرط ثبوت ذلك طبيًا أو قضائيًا أمام المحكمة.
ج- الموقف القانوني :
- في القوانين العربية الحديثة، يُشترط لإثبات عدم وقوع الطلاق بسبب السكر أو المخدرات تقديم تقارير طبية أو خبرة مختصة تُثبت فقدان الإدراك وقت التلفظ بالطلاق.
- وتهدف هذه القاعدة لحماية الزوجة والأبناء من آثار تصرفات غير مختارة.
خامسًا: الطلاق الصوري أو غير الجاد
- أجمع جمهور الفقهاء على أن الطلاق الصريح يقع ولو كان مازحًا، استنادًا لحديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة».
- إلا أن بعض المعاصرين يفرقون بين المزاح العابر الذي لا يقصد به إنشاء الطلاق، وبين اللفظ الصريح المتعمد.
الطلاق المعلق على شرط لم يتحقق :
- إذا علّق الزوج الطلاق على شرطٍ ولم يتحقق الشرط، فلا يقع الطلاق. مثال: “إن خرجتِ من البيت فأنتِ طالق”، ولم تخرج، فلا طلاق.
سادسًا: الطلاق بالكناية دون نية
- كناية الطلاق هي الألفاظ المحتملة التي تحتمل الطلاق وغيره، مثل: “اذهبي إلى أهلك”، أو “لا شأن لي بك”.
حكم الطلاق بالكناية :
- لا يقع الطلاق بالكناية إلا إذا اقترنت بنية الطلاق. فإذا انتفت النية، فلا يقع الطلاق، حمايةً للأسرة من الانفصام بسبب ألفاظ محتملة.
سابعًا: الطلاق قبل الدخول في بعض الصور
- ذهب بعض الفقهاء إلى أن الطلاق قبل الدخول إذا صدر على غير وجهٍ صحيح أو لم تتوافر شروطه، لا يعتد به.
- كما أن آثاره تختلف عن الطلاق بعد الدخول، ما يستوجب التحقق الدقيق من صحته.
ثامنًا: الطلاق غير الموثق قانونًا
- تشترط كثير من القوانين العربية توثيق الطلاق أمام الجهات المختصة لإثباته قانونًا، حمايةً للزوجة والأبناء.
عدم سماع دعوى الطلاق غير الموثق :
- في بعض التشريعات، لا تُسمع دعوى الطلاق عند الإنكار إلا إذا كان موثقًا رسميًا، ما يجعل الطلاق غير الموثق عديم الأثر القانوني، وإن كان له أثر شرعي محل نظر.
تاسعًا: الطلاق المضاف إلى زمنٍ مستقبل
- إذا قال الزوج: “أنتِ طالق غدًا”، اختلف الفقهاء في وقوعه.
- ويرى كثير من المعاصرين عدم وقوعه إلا عند حلول الأجل، وإذا تراجع الزوج قبل ذلك، فلا طلاق.
عاشرًا: الطلاق في مرض الموت المصحوب بفقدان التمييز
- إذا طلق الزوج في مرض الموت وهو فاقد للتمييز، فلا يقع الطلاق، حمايةً للزوجة من التحايل على أحكام الميراث.
الحادي عشر: الطلاق الواقع بناءً على خطأ أو سهو
- إذا تلفظ الزوج بلفظ الطلاق خطأً، كسبق لسان دون قصد، أو على سبيل الحكاية أو التعليم، فلا يقع الطلاق لانتفاء القصد.
الثاني عشر: الطلاق المقرون بعدد غير معتبر
- في بعض القوانين، لا يُعتد بالطلاق الثلاث بلفظٍ واحد إلا طلقةً واحدة، تحقيقًا لمقاصد الشريعة في تقليل الطلاق، وهو اتجاه تشريعي معاصر.