تُعد حالة الضرورة من المفاهيم الجوهرية في الفقه القانوني والجنائي على السواء، لما تثيره من جدل بين مبدأ احترام القانون من جهة، وحماية القيم الإنسانية الأساسية من جهة أخرى. فهي تمثل استثناءً على القاعدة العامة التي تقضي بمعاقبة كل من يرتكب فعلاً يجرّمه القانون، إذ تتيح له النجاة من المسؤولية الجنائية متى وجد نفسه أمام خطر جسيم لا يمكن دفعه إلا بارتكاب فعل مخالف للقانون.
إنّ دراسة حالة الضرورة تكتسب أهميتها من كونها تتعلق بالتوازن بين حق الفرد في الحياة وسلامته وبين واجب الدولة في حماية النظام العام. فهي ليست مجرد ذريعة لارتكاب الجريمة، بل نظام قانوني دقيق يهدف إلى تحقيق العدالة حينما تتصارع القيم والمصالح الحيوية.
وسنتناول في هذا المقال الجوانب المتعددة لحالة الضرورة، بدءًا من مفهومها وأساسها القانوني، مرورًا بأركانها وشروطها، وصولًا إلى آثارها القانونية وتطبيقاتها في الواقع العملي، مع مقارنة بين الأنظمة القانونية المختلفة في تناولها لهذا المبدأ.
الفصل الأول: الإطار المفاهيمي لحالة الضرورة
تعريف حالة الضرورة :تُعرَّف حالة الضرورة بأنها:
- “حالة يُضطر فيها الشخص إلى ارتكاب فعل مجرَّم قانونًا، دفعًا لضرر جسيم حالّ يهدده أو يهدد غيره، ولا سبيل لدفعه إلا بارتكاب ذلك الفعل.”
- وفي ضوء هذا التعريف، يتضح أن حالة الضرورة ليست حالة اختيار بين الخير والشر، وإنما بين شرّين أحدهما أكبر من الآخر، فيُرتكب الأخفّ لتفادي الأشدّ.
أولًا:التمييز بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي :
يُخطئ البعض في الخلط بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي، رغم الاختلاف الجوهري بينهما:
- التمييز بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي من النقاط الجوهرية في الفقه الجنائي، إذ يختلط المفهومان على كثير من الدارسين رغم اختلافهما في الأساس والمضمون والآثار القانونية.
- ومن هنا، فإن الدفاع الشرعي يستند إلى العدوان غير المشروع، بينما حالة الضرورة تستند إلى الخطر الجسيم غير الاختياري.
ثالثًا: الأساس الفلسفي والقانوني لحالة الضرورة:
- يقوم مبدأ حالة الضرورة على العدالة الطبيعية التي تقضي بعدم معاقبة شخص تصرف لإنقاذ نفسه أو غيره من خطر داهم،
- طالما أنه لم يكن هو المتسبب فيه، ولم يكن بوسعه تفاديه بوسيلة أخرى.
- كما يجد هذا المبدأ أساسه في فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة في الظروف الاستثنائية، شريطة ألا تتجاوز الوسيلة حدود الضرورة.
- وفي التشريعات الحديثة، يُستند في تقرير حالة الضرورة إلى انتفاء القصد الجنائي أو إلى تعارض الواجبات حين يتعذر الوفاء بهما معًا.
الفصل الثاني: الأساس القانوني لحالة الضرورة في التشريعات
- يقصد بالأساس القانوني لحالة الضرورة المبدأ الذي يجيز للفرد ارتكاب فعل يُعد في الأصل غير مشروع،
- إذا كان الهدف منه دفع خطر حالّ وجسيم يهدد النفس أو المال، بشرط أن يكون هذا الفعل هو الوسيلة الوحيدة لتجنب الخطر.
- ويستند هذا المفهوم إلى قاعدة العدالة الإنسانية التي ترى أنه لا يمكن معاقبة من اضطر إلى الفعل اضطرارًا لا إراديًا،
- حيث تغيب حرية الاختيار التي تُعد أساس المسؤولية الجنائية والمدنية.
أولًا: في القانون المصري :
نصت المادة 61 من قانون العقوبات المصري على أن:
- “لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إليها ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم حالّ لم يكن لإرادته دخل في حلوله،
- ولم يكن في استطاعته دفعه بطريقة أخرى، بشرط أن يكون الفعل متناسبًا مع الخطر المراد اتقاؤه.”
- يتضح من النص أن المشرع المصري وضع شروطًا دقيقة للاستفادة من حالة الضرورة، أبرزها وجود خطر حالّ وجسيم، وغياب الإرادة في حدوثه، وتناسب الفعل مع الخطر.
ثانيًا: في القانون الفرنسي :
يتضمن المادة 122-7 من قانون العقوبات الفرنسي نصًا مشابهًا، جاء فيه:
- “لا يكون الشخص مسؤولًا جنائيًا إذا واجه خطرًا حالًّا يهدد نفسه أو غيره، وقام بفعل ضروري لحماية نفسه أو الغير من هذا الخطر، ما لم يكن بين الوسائل المستخدمة والخطر عدم تناسب.”
- يتضح التشابه الكبير بين النصين المصري والفرنسي، وهو ما يعكس تأثير الفقه الفرنسي في التشريع المصري.
ثالثًا: في القوانين العربية الأخرى :
- في القانون الجزائري (المادة 49): تقرر أن “من ارتكب فعلًا لدفع خطر حالّ لا يمكن تجنبه بغير ذلك الفعل لا يُسأل جنائيًا.”
- أما القانون الأردني (المادة 89)، فيشترط كذلك ألا يكون الفاعل قد تسبب عمدًا في وقوع الخطر.
- وفي القانون الإماراتي (المادة 62)، نص واضح على أن الضرورة تعد سببًا للإباحة إذا كانت الشروط متوافرة.
يتضح أن معظم التشريعات العربية تتفق على مبدأ الإعفاء من العقاب في حالة الضرورة، مع فروق طفيفة في التفاصيل الإجرائية.
الفصل الثالث: أركان حالة الضرورة وشروطها
تقوم حالة الضرورة على مجموعة من الأركان القانونية الجوهرية، يمكن إجمالها في ثلاثة عناصر رئيسية: الخطر، وعدم الاختيار، وتناسب الفعل.
أولًا: ركن الخطر :
يشترط أن يكون هناك خطر جسيم حالّ يهدد الشخص أو غيره في النفس أو المال أو العرض.
- الخطر الحالّ: أي الذي يوشك أن يقع أو بدأ وقوعه بالفعل، وليس خطرًا محتملًا في المستقبل.
- الخطر الجسيم: يجب أن يكون شديدًا يهدد مصلحة جوهرية كالحياة أو السلامة أو الشرف.
- مصدر الخطر: يمكن أن يكون من الطبيعة (كالفيضانات والزلازل)، أو من إنسان دون قصد، أو من حيوان.
ثانيًا: عدم وجود إرادة في حلول الخطر :
يجب ألا يكون الفاعل قد تسبب بإرادته أو بخطئه في وجود هذا الخطر، لأن من تسبب في الضرر لا يمكنه أن يتذرع بحالة الضرورة التي أوجدها بنفسه.
ثالثًا: عدم وجود وسيلة أخرى لدفع الخطر:
- من شروط حالة الضرورة أن يكون الفعل الذي ارتُكب هو الوسيلة الوحيدة الممكنة لدفع الخطر.
- فإذا كان بإمكان الفاعل تفادي الخطر بطريقة أخرى أقل ضررًا، فإنه لا يُعفى من المسؤولية.
رابعًا: التناسب بين الفعل والخطر:
يُعد التناسب من أهم عناصر حالة الضرورة، أي أن يكون الضرر الناتج عن الفعل أقل من الضرر الذي تم دفعه.
فلا يُقبل أن يقتل شخصٌ آخر لمجرد إنقاذ ماله، لأن مصلحة المال لا تعلو على مصلحة الحياة.
خامسًا: نية إنقاذ المصلحة المشروعة :
ينبغي أن يكون الباعث على ارتكاب الفعل هو إنقاذ النفس أو الغير من الخطر، لا تحقيق مصلحة شخصية أو إضرار بالآخرين.
الفصل الرابع: الآثار القانونية المترتبة على حالة الضرورة
- تُعد حالة الضرورة من أبرز المفاهيم القانونية التي تمس جوهر العدالة،
- لأنها تضع المشرّع والقاضي أمام معادلة صعبة بين احترام القاعدة القانونية وصون المصلحة العليا للإنسان والمجتمع.
- ومن ثمّ، فإن تطبيق حالة الضرورة لا بد أن يترتب عليه آثار قانونية محددة تضمن التوازن بين حماية النظام القانوني وبين مراعاة الظروف الاستثنائية التي قد تبرر الخروج المؤقت عن النص.
أولًا: من حيث المسؤولية الجنائية :
- يترتب على ثبوت حالة الضرورة انعدام المسؤولية الجنائية عن الفعل، لأن القانون يعترف بأن الفاعل كان في موقف لا يملك فيه حرية الاختيار.
- فالفعل من حيث المبدأ يظل مجرّمًا، لكنه يفقد صفته الإجرامية في ظل الضرورة. ويُقال في الفقه:
- “الفعل يبقى غير مشروع، لكنه غير معاقب عليه.”
ثانيًا: من حيث المسؤولية المدنية :
- يختلف الأمر في مجال المسؤولية المدنية، إذ يمكن أن يُعفى الفاعل من العقوبة الجنائية،
- لكنه قد يتحمل التعويض عن الأضرار التي ألحقها بالغير، خاصة إذا كان فعله قد تسبب في ضرر لم يكن مضطرًا إليه تمامًا.
- فالقانون يوازن بين مصالح الأفراد، ولا يحمّل الضحية وحدها تبعات الضرورة.
- ثالثًا: من حيث المسؤولية التأديبية والإدارية :
- في الوظيفة العامة، قد يجد الموظف نفسه أمام خطر أو ظرف طارئ يبرر مخالفته للقواعد الإدارية.
- وفي هذه الحالة، يُنظر في مدى مشروعية تصرفه وفق معايير الضرورة، فإذا ثبتت، رُفع عنه الجزاء التأديبي.
الفصل الخامس: التطبيقات العملية لحالة الضرورة
- إنّ حالة الضرورة ليست مجرد فكرة نظرية أو قاعدة قانونية جامدة، بل هي مبدأ تطبيقي يبرز في مجالات متعددة من الحياة القانونية،
- سواء في القانون الجنائي أو المدني أو حتى في القانون الإداري والدستوري.
- ويهدف تطبيقها إلى حماية الإنسان والمجتمع في المواقف التي لا يكون فيها من سبيلٍ آخر سوى خرق القاعدة القانونية لتفادي خطرٍ جسيم أو ضررٍ محقق.
- وفيما يلي عرض لأهم التطبيقات العملية لحالة الضرورة في الأنظمة القانونية المختلفة.
أولًا: في المجال الجنائي :
-
مثال (1): شخص اقتحم منزلًا أثناء حريق لينقذ طفلًا كان يختنق بالدخان، فكسر الباب.
→ هنا تتوافر حالة الضرورة، فلا يُعاقب على جريمة الدخول أو الإتلاف. -
مثال (2): سائق سيارة انحرف عن الطريق لتفادي دهس طفل، فاصطدم بجدار وتسبب في ضرر لمالك الجدار.
→ يُعفى جنائيًا، لكن قد يُسأل مدنيًا عن التعويض.
ثانيًا: في المجال المدني :
- تظهر حالة الضرورة في العقود عندما تُجبر الظروف أحد الأطراف على الإخلال بالتزامه.
- وقد يأخذ القضاء بالضرورة كسبب لتخفيف المسؤولية أو تعديل الالتزامات العقدية.
ثالثًا: في المجال الإداري :
- قد تلجأ السلطات العامة إلى اتخاذ إجراءات استثنائية في ظروف الكوارث الطبيعية أو الأزمات الأمنية،
- كفرض حظر تجول أو إخلاء مناطق، وهي تُبرر قانونًا بمبدأ “الضرورة تقدر بقدرها”.
رابعًا: في المجال الطبي :
- من أكثر المجالات التي تُثار فيها حالة الضرورة هي التدخل الطبي العاجل دون إذن المريض لإنقاذ حياته،
- وهو ما يعتبره القانون مبررًا مشروعًا لرفع المسؤولية عن الطبيب.
الفصل السادس: الفقه والقضاء في تفسير حالة الضرورة
- تُعدّ حالة الضرورة من أكثر الموضوعات التي أثارت اهتمام الفقهاء والقضاة على السواء،
- لما تنطوي عليه من تعارضٍ بين مصلحتين متنازعتين: مصلحة احترام القاعدة القانونية، ومصلحة إنقاذ النفس أو المال أو درء خطر جسيم يهدد المجتمع أو الأفراد.
- ومن هنا، فإن الفقه والقضاء سعيا إلى وضع ضوابط دقيقة لتطبيق هذه الحالة حتى لا تكون ذريعة للفوضى أو وسيلة للإفلات من المسؤولية.
أولًا: في الفقه :
- انقسم الفقه القانوني حول الطبيعة القانونية لحالة الضرورة إلى اتجاهين:
- الاتجاه الأول: يرى أنها سبب للإباحة لأن القانون ذاته يجيز الفعل في هذه الحالة.
- الاتجاه الثاني: يعتبرها سببًا لانتفاء المسؤولية، لأن الفاعل لم يكن حرّ الإرادة.
- ومعظم الفقه الحديث يميل إلى الاتجاه الثاني، باعتبار أن الفعل يظل غير مشروع، لكن يُعفى الفاعل من العقوبة.
ثانيًا: في القضاء :
- قضت محكمة النقض المصرية بأن:
- “حالة الضرورة تقتضي وجود خطر جسيم حالّ لم يكن للفاعل يد في حدوثه، وكان لا مفر من دفعه إلا بارتكاب الفعل المكوّن للجريمة، وأن يكون هذا الفعل متناسبًا مع الخطر.”
- كما اعتبرت أن تقدير توافر حالة الضرورة مسألة موضوعية يترك تقديرها لقاضي الموضوع وفقًا للظروف والملابسات.
الفصل السابع: التجارب المقارنة في تطبيق حالة الضرورة
- تُعد حالة الضرورة من المفاهيم القانونية التي حظيت باهتمام واسع في مختلف النظم القانونية،
- سواء في التشريعات الوضعية أو في الفقه الإسلامي،
- وذلك لما تثيره من إشكاليات تتعلق بالتوازن بين احترام النصوص القانونية وضرورة حماية المصالح العليا للإنسان والمجتمع في الظروف الاستثنائية.
أولًا: في الفقه الإسلامي :
- يُقرّ الفقه الإسلامي مبدأ الضرورة بموجب القاعدة العامة:
- “الضرورات تبيح المحظورات.”
- لكن بشروط واضحة، أهمها أن تُقدّر الضرورة بقدرها، وألا تُستعمل حيلة لارتكاب الحرام.
- ويستدل الفقهاء بقول الله تعالى:
- “فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه” (البقرة: 173).
ثانيًا: في القوانين الأوروبية :
- في القانون الألماني، المادة 34 من Strafgesetzbuch تنص على أن الضرورة ترفع العقوبة إذا كان الفعل يهدف إلى حماية مصلحة أعلى.
- أما القانون الإنجليزي فيتخذ موقفًا أكثر تحفظًا، إذ لا يعترف بحالة الضرورة كمبرر في الجرائم الجسيمة كالقتل، كما في قضية R v. Dudley and Stephens (1884) الشهيرة،
- حيث رفضت المحكمة الدفاع بالضرورة رغم أن الفاعلين قتلوا أحدهم لأكل لحمه بعد غرق السفينة.
الفصل الثامن: الانتقادات الموجهة إلى مبدأ حالة الضرورة
- رغم عدالتها، وُجهت إلى حالة الضرورة عدة انتقادات:
- اتساع نطاقها قد يهدد استقرار القواعد القانونية، إذ قد تُستخدم ذريعة للإفلات من العقاب.
- صعوبة التحقق من حقيقة الخطر، مما يجعل الأمر خاضعًا للتقدير الذاتي للفاعل.
- عدم التوازن بين المصالح، فقد يُضحّى بمصلحة بريء لإنقاذ آخر.
- إلا أن أنصار هذا المبدأ يردّون بأن القانون يضع ضوابط دقيقة لتطبيقه، ويُخضعه لتقدير القضاء، مما يحد من إساءة استعماله.
الفصل التاسع: التوجهات الحديثة في تنظيم حالة الضرورة
- مع تطور المجتمعات وتعقّد العلاقات القانونية، توسع نطاق مفهوم الضرورة ليشمل:
- الضرورة الاقتصادية، كما في حالات الإفلاس أو الأزمة المالية العامة.
- الضرورة البيئية، كالإجراءات العاجلة لمنع تلوث أو كارثة بيئية.
- الضرورة الصحية، كما ظهر جليًا أثناء جائحة كورونا، حيث أجيزت تدابير استثنائية كالإغلاق وحظر التنقل حمايةً للصحة العامة.
- وقد أكدت هذه التطورات أن مبدأ الضرورة لا يقتصر على المجال الجنائي، بل أصبح مبدأً عامًا في الفكر القانوني المعاصر.