يُعَدُّ التسول من الظواهر الاجتماعية السلبية التي تعكس مشكلات اقتصادية واجتماعية وقانونية متشابكة، وتُثير قلقًا واسعًا لدى المجتمعات لما لها من تأثير على الأمن والنظام العام وصورة الدولة أمام مواطنيها والزائرين لها. وعلى الرغم من أن التسول يُقدَّم غالبًا في صورة حالة إنسانية تستدر العطف والرحمة، إلا أن خلفه قد تكمن شبكات منظمة تستغل ضعف الأفراد وتحوّل الظاهرة إلى نشاط ربحي قائم على الاحتيال والابتزاز العاطفي.
ومع اتساع المدن وتزايد معدلات الفقر والبطالة وتراجع دور بعض مؤسسات الحماية الاجتماعية، أصبحت ظاهرة التسول أكثر انتشارًا وتعقيدًا، مما استدعى تدخل المشرّع بوضع عقوبات رادعة، إلى جانب أهمية البحث عن حلول وقائية واجتماعية تحد من مسبباتها.
أولًا: الإطار المفاهيمي لظاهرة التسول
التسول هو سلوك يقوم فيه الفرد بطلب المال أو الطعام أو المساعدة من الآخرين في الطرقات أو الأماكن العامة دون تقديم مقابل، مستندًا في ذلك إلى مظهر العجز أو الحاجة. وقد يأخذ أشكالًا مختلفة، منها التسول المباشر عبر مد اليد، أو غير المباشر عبر بيع سلع رمزية أو أداء خدمات سطحية لا قيمة اقتصادية لها.
وتفرّق الدراسات الاجتماعية بين نوعين من المتسولين:
- المتسول المضطر: الذي يدفعه الفقر المدقع أو العجز الصحي أو فقدان المعيل إلى اللجوء للتسول.
- المتسول المحترف: الذي يتخذ من التسول مهنة دائمة أو نشاطًا منظمًا يدر عليه دخلاً يفوق دخل العمل الشريف.
ثانيًا: الأسباب المؤدية إلى انتشار التسول
تتعدد الأسباب والعوامل التي تغذي هذه الظاهرة، ويمكن تقسيمها إلى ما يلي:
1. الأسباب الاقتصادية :
- الفقر والحرمان: يمثل العامل الأبرز، حيث يفتقر الأفراد إلى الموارد الأساسية للعيش الكريم.
- البطالة: غياب فرص العمل يدفع بعض الأشخاص إلى طلب المساعدة في الشوارع.
- ارتفاع تكاليف المعيشة: خصوصًا في المدن الكبرى حيث تتزايد الأعباء على الأسر الفقيرة.
2. الأسباب الاجتماعية :
- التفكك الأسري: الانفصال والطلاق وغياب المعيل يترك الأطفال والنساء في مواجهة الحاجة.
- الهجرة الداخلية والخارجية: انتقال الأسر من الريف إلى المدن بحثًا عن الرزق يؤدي إلى بروز أطفال وأسر بلا مأوى.
- الإدمان والانحراف: بعض المتسولين ينفقون ما يحصلون عليه في تعاطي المخدرات أو الكحول.
3. الأسباب التعليمية والثقافية :
- الأمية والجهل: غياب التعليم يحد من فرص العمل ويجعل البعض أسهل انجذابًا للتسول.
- غياب الوعي المجتمعي: حيث يُنظر للتسول بوصفه وسيلة عادية للحصول على المال، فيتوارثها الأبناء عن الآباء.
4. الأسباب الصحية والنفسية :
- الإعاقات الجسدية: التي تمنع صاحبها من العمل.
- الاضطرابات النفسية: مثل الاكتئاب أو الفصام التي قد تدفع صاحبها للتشرد والتسول.
5. الأسباب المرتبطة بالجريمة المنظمة :
-
عصابات التسول: التي تستغل الأطفال والنساء وكبار السن في عمليات ممنهجة، حيث يتم توزيعهم على أماكن معينة وجمع الأموال منهم نهاية اليوم.
ثالثًا: الآثار المترتبة على ظاهرة التسول
ظاهرة التسول ليست مجرد طلب للمساعدة بل لها انعكاسات متعددة:
1. الآثار الاجتماعية :
- تشويه صورة المجتمع: إذ تعكس التخلف والفقر أمام المواطنين والزائرين.
- تفشي قيم الاتكالية: اعتماد البعض على عطف الآخرين بدلًا من العمل.
- تفكك الروابط الأسرية: بسبب استغلال الأطفال والنساء في التسول.
2. الآثار الاقتصادية :
- إهدار الطاقات البشرية: إذ يمكن لهؤلاء المتسولين أن يكونوا أفرادًا منتجين.
- انتشار الاقتصاد الخفي: من خلال أرباح غير مشروعة لا تدخل الدورة الاقتصادية الرسمية.
3. الآثار الأمنية والقانونية :
- ارتفاع معدلات الجريمة: إذ يرتبط التسول أحيانًا بالسرقة والنشل.
- إرباك السلطات الأمنية: من خلال صعوبة السيطرة على المتسولين في الأماكن العامة.
4. الآثار النفسية والثقافية :
- توليد مشاعر سلبية: كالتعاطف الزائف أو الاستغلال العاطفي.
- تشويه صورة الكرامة الإنسانية: إذ يُجبر الأفراد على إظهار العجز لاستدرار المال.
رابعًا: العقوبة القانونية لظاهرة التسول
يولي المشرّع في مختلف الدول أهمية خاصة لمكافحة هذه الظاهرة من خلال نصوص قانونية صريحة:
1. التجريم والعقاب :
- تُعاقب التشريعات الجنائية غالبًا المتسول بالحبس مدة قد تصل إلى عدة أشهر أو بغرامة مالية.
- في حالة العود، تكون العقوبة أشد وقد تصل إلى الحبس مع الشغل.
2. التفرقة بين المتسول المحتاج والمتسول المحترف :
- بعض القوانين تراعي الظروف الإنسانية للمتسول المضطر، وتوجهه لمؤسسات الرعاية بدلًا من معاقبته.
- أما المتسول المحترف فيُعامَل كمجرم يسعى إلى الكسب غير المشروع.
3. عقوبات عصابات التسول :
- التشريعات تشدد العقوبات على من يستغل الأطفال أو النساء أو ذوي الإعاقة في التسول.
- في بعض الدول قد تصل العقوبة إلى السجن لسنوات طويلة مع الغرامة.
4. التشريعات المقارنة :
- في مصر: نص قانون العقوبات على معاقبة كل من يتسول في الطرق العامة، مع تشديد العقوبة إذا كان المتسول قادرًا على العمل.
- في السعودية: صدر نظام مكافحة التسول عام 1443هـ الذي يجرّم التسول بجميع أشكاله، ويعاقب بالحبس والغرامة، مع إبعاد غير السعوديين.
- في الإمارات: تعتبر التسول جريمة ويعاقب عليها بالحبس والغرامة التي قد تصل إلى 5000 درهم.
خامسًا: طرق الحد من ظاهرة التسول
لمواجهة هذه الظاهرة لا يكفي الحل القانوني فقط، بل يتطلب الأمر خطة شاملة:
1. الحلول الوقائية :
- مكافحة الفقر والبطالة: بخلق فرص عمل وتقديم مساعدات اجتماعية للأسر الأكثر فقرًا.
- التعليم الإلزامي: للحد من عمالة الأطفال والتسول.
- برامج التوعية: لتثقيف المجتمع بخطورة التسول وعدم تشجيع المتسولين بإعطائهم المال مباشرة.
2. الحلول العلاجية :
- إيواء المتسولين: عبر دور الرعاية والملاجئ.
- تقديم خدمات صحية ونفسية: خاصة للمتعاطين أو ذوي الإعاقة.
- إعادة دمجهم في المجتمع: عبر تدريب مهني وتأهيل للعمل.
3. الحلول القانونية والأمنية :
- تطبيق صارم للقوانين: مع التفرقة بين المحتاجين الفعليين والمحترفين.
- مكافحة العصابات المنظمة: عبر تتبع مصادر التمويل وشبكات الاستغلال.
- إبعاد المتسولين الأجانب غير النظاميين: مع ضمان حقوق الإنسان في التعامل.
4. دور المؤسسات الدينية والمجتمع المدني :
- تحفيز العمل الخيري المنظم: عبر الجمعيات الرسمية بدلًا من العطاء المباشر للمتسولين.
- تعزيز قيم التكافل: من خلال الزكاة والصدقات الموجهة لمستحقيها عبر قنوات رسمية.
سادسًا: التجارب الدولية في مكافحة التسول
- سنغافورة: اعتمدت سياسة صارمة تقوم على تجريم التسول وتوفير فرص عمل بديلة.
- المغرب: أنشأت برامج “مراكز الرعاية الاجتماعية” لاستيعاب النساء والأطفال المتسولين.
- الإمارات: أطلقت حملة “معًا ضد التسول” لتشجيع المواطنين على التبرع عبر الجمعيات الخيرية فقط.