يُعد التشريع المصدر الأهم والأكثر شيوعًا للقاعدة القانونية في النظم القانونية الحديثة، إذ يمثل التعبير الرسمي عن إرادة الدولة في تنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة، وتحقيق العدالة، وضمان الاستقرار والأمن القانوني داخل المجتمع. وقد تزايدت أهمية التشريع مع تطور الدولة الحديثة واتساع وظائفها، فلم يعد الاعتماد مقتصرًا على العرف أو الاجتهاد القضائي، بل أصبح التشريع الأداة الأساسية التي تُنشئ القواعد القانونية وتحدد نطاقها وأحكامها وآليات تطبيقها.
ويتميّز التشريع بكونه يصدر عن سلطة مختصة وفق إجراءات محددة، ويكون مكتوبًا وواضحًا وقابلًا للتعديل أو الإلغاء وفق القنوات الدستورية المقررة. ومن هنا، فإن دراسة التشريع كمصدر للقاعدة القانونية تكتسب أهمية بالغة لفهم طبيعة القاعدة القانونية، ومراتب القواعد التشريعية، ودورها في تنظيم المجتمع، وعلاقتها ببقية مصادر القانون.
تهدف هذه المقالة إلى تقديم دراسة تحليلية موسعة للتشريع كمصدر للقاعدة القانونية، من حيث مفهومه، خصائصه، أنواعه، مراتبه، مزاياه وعيوبه، وعلاقته ببقية مصادر القاعدة القانونية، مع إبراز دوره في تحقيق الاستقرار القانوني ومواكبة التطور الاجتماعي.
أولًا: مفهوم التشريع
- التشريع في اللغة مشتق من الفعل “شرع”، أي سنَّ وبيَّن ووضع الطريق الواضح. ويُقال شرع الشيء أي أظهره وفتح طريقه.
- ومن هذا المعنى اللغوي يُفهم أن التشريع يتضمن وضع قواعد واضحة تُنظم سلوك الأفراد داخل المجتمع.
1. التعريف الاصطلاحي للتشريع :
- يُعرَّف التشريع اصطلاحًا بأنه: “مجموعة القواعد القانونية المكتوبة التي تصدر عن سلطة عامة مختصة في الدولة، وفق إجراءات محددة، بقصد تنظيم العلاقات الاجتماعية، وتكون ملزمة للكافة”.
- ومن هذا التعريف يتضح أن التشريع لا يكون إلا مكتوبًا، ولا يصدر إلا عن جهة رسمية مختصة، ويهدف إلى تنظيم المجتمع، ويتمتع بصفة الإلزام العام.
2. التشريع والقاعدة القانونية :
- التشريع هو المصدر المباشر والأصيل للقاعدة القانونية، إذ تتجسد القاعدة القانونية في نصوص تشريعية تُحدّد الحقوق والواجبات، وتُقر الجزاءات عند مخالفتها.
- فالقاعدة القانونية في صورتها التشريعية تكون أكثر وضوحًا واستقرارًا مقارنة بالقواعد المستمدة من مصادر أخرى.
ثانيًا: نشأة التشريع وتطوره التاريخي
- يمثل التشريع حصيلة تطور تاريخي طويل ارتبط بتطور المجتمعات البشرية ونشأة الدولة وتنظيم السلطة فيها.
- فلم يظهر التشريع بصورته الحديثة دفعة واحدة، بل مر بمراحل متعددة،
- انتقل فيها من القواعد العرفية والدينية غير المكتوبة إلى القواعد القانونية المكتوبة الصادرة عن سلطة مختصة.
1. التشريع في المجتمعات القديمة :
- في المجتمعات البدائية، لم يكن التشريع بمعناه الحديث معروفًا، إذ كانت القواعد الاجتماعية تُستمد أساسًا من العرف والتقاليد الدينية.
- ومع تطور المجتمعات، بدأت تظهر محاولات لتدوين القواعد القانونية، كما في شريعة حمورابي، التي تُعد من أقدم التشريعات المدونة في التاريخ.
2. التشريع في العصور الوسطى :
- في العصور الوسطى، تأثر التشريع إلى حد كبير بالدين، حيث كانت القواعد الدينية تشكل المصدر الأساسي للتنظيم القانوني، سواء في المجتمعات الإسلامية أو المسيحية.
- ومع ذلك، ظل دور السلطة السياسية في سن القوانين محدودًا نسبيًا.
3. التشريع في الدولة الحديثة :
- مع ظهور الدولة الحديثة، وتكريس مبدأ سيادة القانون، أصبح التشريع المصدر الأول للقاعدة القانونية،
- وأُنشئت البرلمانات والمجالس التشريعية لتتولى مهمة سن القوانين، وفق قواعد دستورية واضحة، تعكس إرادة الشعب.
ثالثًا: خصائص التشريع كمصدر للقاعدة القانونية
- يتميز التشريع بعدد من الخصائص الجوهرية التي تجعله المصدر الأساسي والأهم للقاعدة القانونية في الدولة الحديثة،
- وتميزه عن غيره من مصادر القواعد القانونية الأخرى، كالعرف والقضاء.
- وتكمن أهمية هذه الخصائص في أنها تمنح القاعدة القانونية الصادرة عن التشريع قوتها الإلزامية وفعاليتها في تنظيم المجتمع.
1. الكتابة :
- من أهم خصائص التشريع أنه مكتوب، مما يحقق وضوح القاعدة القانونية، ويُسهّل الرجوع إليها، ويُقلل من احتمالات الاختلاف في تفسيرها.
2. الصدور عن سلطة مختصة :
- لا يُعد النص تشريعًا إلا إذا صدر عن جهة مخولة دستوريًا، كالسلطة التشريعية أو من يفوضه الدستور، مما يضفي عليه الشرعية والقوة الإلزامية.
3. العمومية والتجريد :
- تتسم القواعد التشريعية بالعمومية والتجريد، فهي تُطبّق على جميع الأشخاص الذين تتوافر فيهم شروطها، دون نظر إلى أشخاصهم أو صفاتهم الفردية.
4. الإلزام :
- القواعد التشريعية ملزمة للكافة، ويترتب على مخالفتها توقيع الجزاء المقرر قانونًا، سواء كان جزاءً جنائيًا أو مدنيًا أو إداريًا.
5. القابلية للتعديل والإلغاء :
- يمتاز التشريع بالمرونة، إذ يمكن تعديله أو إلغاؤه وفق الإجراءات الدستورية، بما يسمح له بمواكبة التطورات الاجتماعية والاقتصادية.
رابعًا: أنواع التشريع
- يُقسم التشريع، من حيث الجهة التي تصدره ومرتبته في البناء القانوني للدولة، إلى عدة أنواع،
- ويُعد هذا التقسيم ضروريًا لفهم تدرج القواعد القانونية وقوتها الإلزامية، ومدى خضوع بعضها لبعض.
- وتختلف أنواع التشريع باختلاف موقعها في الهرم التشريعي ووظيفتها في تنظيم المجتمع.
1. التشريع الأساسي (الدستور) :
- يُعد الدستور أعلى مراتب التشريع، إذ يتضمن القواعد الأساسية التي تُنظم شكل الدولة ونظام الحكم والحقوق والحريات العامة، وتلتزم جميع التشريعات الأدنى بعدم مخالفته.
2. التشريع العادي :
- يشمل القوانين التي تصدر عن السلطة التشريعية لتنظيم مختلف مناحي الحياة، مثل القانون المدني، والقانون الجنائي، وقانون العمل.
3. التشريع الفرعي (اللوائح) :
- تصدر اللوائح عن السلطة التنفيذية، بهدف تنفيذ القوانين وبيان كيفية تطبيقها، ويجب ألا تخالف القوانين أو الدستور.
خامسًا: مراتب التشريع في النظام القانوني
- يقوم النظام القانوني في الدولة الحديثة على مبدأ التدرج التشريعي، الذي يقتضي ترتيب القواعد القانونية بحسب قوتها ومرتبتها،
- بحيث تخضع القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى، ولا يجوز لها مخالفتها.
- ويهدف هذا التدرج إلى تحقيق الانسجام والتكامل بين مختلف التشريعات، وضمان احترام مبدأ سيادة القانون .
1. الدستور :
- يتربع الدستور على قمة الهرم التشريعي، وتخضع له جميع القواعد القانونية الأخرى.
2. القوانين :
- تأتي القوانين في المرتبة الثانية بعد الدستور، وتُعد المصدر الرئيسي لتنظيم الحقوق والواجبات.
3. اللوائح والقرارات :
- تشمل اللوائح التنفيذية والتنظيمية وقرارات الضبط، وتأتي في مرتبة أدنى من القوانين.
سادسًا: مزايا التشريع كمصدر للقاعدة القانونية
- الوضوح والاستقرار.
- تحقيق مبدأ سيادة القانون.
- توحيد القواعد القانونية داخل الدولة.
- المرونة وقابلية التطوير.
- تحقيق الأمن القانوني.
سابعًا: عيوب التشريع
- الجمود النسبي في مواجهة التطورات السريعة.
- احتمال التأثر بالاعتبارات السياسية.
- كثرة النصوص التشريعية وتعارضها أحيانًا.
ثامنًا: العلاقة بين التشريع وبقية مصادر القاعدة القانونية
- يُعد التشريع المصدر الأهم والأكثر شيوعًا للقاعدة القانونية في النظم القانونية الحديثة،
- إذ يمثل التعبير الرسمي عن إرادة الدولة في تنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة، وتحقيق العدالة، وضمان الاستقرار والأمن القانوني داخل المجتمع.
- وقد تزايدت أهمية التشريع مع تطور الدولة الحديثة واتساع وظائفها، فلم يعد الاعتماد مقتصرًا على العرف أو الاجتهاد القضائي،
- بل أصبح التشريع الأداة الأساسية التي تُنشئ القواعد القانونية وتحدد نطاقها وأحكامها وآليات تطبيقها.
1. التشريع والعرف :
- يعلو التشريع على العرف، ولا يُعمل بالعرف إذا خالف نصًا تشريعيًا صريحًا.
2. التشريع والقضاء :
- يلتزم القاضي بتطبيق التشريع، ولا يجوز له مخالفته، إلا في حدود تفسير النصوص.
3. التشريع ومبادئ الشريعة :
- في بعض النظم القانونية، تُعد الشريعة مصدرًا رئيسيًا أو احتياطيًا للتشريع.
تاسعًا: دور التشريع في تحقيق العدالة والاستقرار
- يلعب التشريع دورًا محوريًا في تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال تنظيم العلاقات، وحماية الحقوق،
- وضمان المساواة، فضلًا عن إسهامه في تحقيق الاستقرار والأمن القانوني.