العربون ودفع جزء من الثمن

يُعد العربون ودفع جزء من الثمن من أهم الأدوات المالية والقانونية المستخدمة لضمان الجدية في التعاقد، لاسيما في معاملات البيع والإيجار والصفقات التجارية. وقد اكتسب العربون أهمية خاصة في المعاملات المدنية والتجارية لما يوفره من حماية للطرفين عبر إظهار جدية الرغبة في إبرام العقد أو تنفيذه، إضافة إلى كونه وسيلة لتعويض الطرف الآخر عند العدول. وعلى الرغم من ارتباط العربون بالمعاملات الحديثة، إلا أنّ جذوره تمتد في الفقه الإسلامي، حيث نوقش حكمه وأثره منذ زمن طويل، مما يجعله محورًا يجمع بين الأسس الشرعية والتنظيمات القانونية الحديثة.

وتكمن أهمية دراسة العربون ودفع جزء من الثمن في كونهما من الموضوعات التي تثور بشأنها العديد من الإشكالات العملية، مثل: هل دفع العربون يعد بداية تنفيذ العقد أم مجرد تأكيد للجدية؟ وهل يحق لأحد الأطراف العدول؟ وما هي الآثار القانونية المترتبة على ذلك؟ وهل هناك فرق بين العربون وبين دفع جزء من الثمن؟ وما موقف القضاء والفقه الإسلامي والتشريعات المعاصرة من هذه المسائل؟

تهدف هذه المقالة إلى تقديم دراسة تحليلية معمقة لجميع الجوانب المتعلقة بالعربون ودفع جزء من الثمن، من خلال عرض تأصيل فقهي وتشريعي ومقارن، وبيان الآثار القانونية المترتبة على كل منهما، إضافة إلى تناول التطبيقات العملية التي تشهدها المحاكم وما يواجهه المتعاقدون من تحديات.

أولًا: ماهية العربون وطبيعته القانونية

  • العربون هو مبلغ من المال يدفعه أحد المتعاقدين للآخر عند إبرام العقد، بقصد تأكيد الجدية في التعاقد،
  • وتمكين الطرفين من العدول مقابل التزام مالي محدد. ويعد العربون اتفاقًا إضافيًا يُلحق بالعقد الأصلي، وليس جزءًا من الثمن إلا إذا اتفق الطرفان صراحة على ذلك.
  • وقد عرّفه الفقهاء بأنه: “مال يدفعه المشتري للبائع عند العقد، على أن يكون من الثمن إن تمّ البيع،
  • وإلا كان للبائع مقابل تبرعه بحبس المبيع أو تخصيصه للمشتري مدة معينة.”

1- الطبيعة القانونية للعربون :

تتحدد الطبيعة القانونية للعربون وفقًا لنوع العقد وشروط الاتفاق بين الطرفين. وقد ثار خلاف فقهي وقانوني حول ما إذا كان العربون يعد:

  1. وسيلة لإثبات الجدية مع بقاء الحق في العدول للطرفين
  2. بداية تنفيذ للعقد ولا يحق العدول بعده
  3. شرطًا جزائيًا في حالة العدول

وفي القانون المدني المصري، يقر المشرّع مبدأ العربون كوسيلة لإجازة العدول، ما لم يثبت اتفاق الطرفين على اعتباره جزءًا من الثمن.

2- أصل العربون في الفقه الإسلامي :

اختلف الفقه الإسلامي في حكم العربون:

  • الحنفية والشافعية: يرون عدم جوازه لأنه بيع معلق على شرط فاسد.
  • المالكية والحنابلة: يجيزونه مع تنظيم دقيق لأحكامه.

وقد أخذت معظم التشريعات العربية بالاتجاه المجيز للعربون، لكونه يتماشى مع مستجدات المعاملات المالية ويحقق مصلحة الطرفين.

ثانيًا: مفهوم دفع جزء من الثمن وتمييزه عن العربون

  • يقصد بدفع جزء من الثمن أن يقوم المشتري بسداد مبلغ من إجمالي الثمن المتفق عليه عند إبرام العقد، على أن يُحتسب هذا المبلغ من كامل الثمن ولا يترتب عليه حق العدول.
  • وبخلاف العربون، دفع جزء من الثمن يعني أن العقد بات ملزمًا للطرفين، ولا يجوز لأي منهما العدول دون تعويض الطرف الآخر عن الضرر.

1- الفرق الجوهري بين العربون ودفع جزء من الثمن

  • رغم التشابه الظاهري بين العربون ودفع جزء من الثمن من حيث كون كل منهما مبلغًا ماليًا يدفع عند التعاقد،
  • إلا أنّ الاختلاف الجوهري بينهما اختلافٌ في الطبيعة القانونية، وفي أثر كل منهما على تكوين العقد والتزام المتعاقدين.
  • وهذا الاختلاف يُحدّد بدقة مدى حرية الطرفين في العدول، وكذلك الجزاء المترتب على ذلك العدول.

أولًا: من حيث الغرض :

  • العربون : يُدفع لإثبات الجدية في التعاقد، ولتمكين الطرفين من حق العدول مقابل تعويض محدد.
  • دفع جزء من الثمن: يُدفع باعتباره تنفيذًا لجزء من الالتزام المالي في العقد، وليس لإجازة العدول.

ثانيًا: من حيث الطبيعة القانونية :

  • العربون :مبلغ مستقل عن الثمن، يهدف إلى إتاحة خيار العدول مع جزاء مالي.
  • دفع جزء من الثمن :جزء أصيل من الثمن المتفق عليه، ولا يمنح أي حق في العدول.

ثالثًا: من حيث الأثر على العقد :

  • العربون :العقد لا يصبح قطعيًا بشكل نهائي؛ إذ يظل للطرفين حق العدول مع تحمل الجزاء المالي المقرر.
  • دفع جزء من الثمن :يجعل العقد ملزمًا ونهائيًا، ولا يملك أي طرف العدول دون تعويض الطرف الآخر.

رابعًا: من حيث الآثار المالية :

  • العربون : إذا عدل من دفع العربون → يفقده. وإذا عدل من قبض العربون → يرده مضاعفًا.
  • دفع جزء من الثمنإذا فسخ العقد بسبب المشتري → يتم خصم الضرر الفعلي فقط (إن وُجد). إذا فسخ بسبب البائع → يُعاد كامل المبلغ مع التعويض.
  • لا يوجد رد مضاعف كما في العربون.

خامسًا: من حيث حق العدول :

  • العربون : العدول مباح للطرفين، ما لم تنص الشروط على خلاف ذلك.
  • دفع جزء من الثمن : لا يجيز العدول، لأن الدفع يعد بدءًا في تنفيذ العقد.

سادسًا: من حيث القرائن القضائية :

  • العربون : قرينة على أن المبلغ دُفع لإجازة العدول.
  • دفع جزء من الثمن : قرينة على أن العقد أصبح نهائيًا وملزمًا للطرفين.

ثالثًا: الأساس القانوني للعربون ودفع جزء من الثمن

تنص التشريعات المدنية غالبًا على جواز العربون بشرط اتفاق الطرفين. ففي القانون المدني المصري، وردت المادة (103) لتؤكد أن:

  • دفع العربون يفيد جواز العدول
  • ما لم ينص الاتفاق أو الظروف على أن المقصود تنفيذ العقد نهائيًا

وبذلك يعتبر القانون العربون رخصة عدول مقررة للطرفين.

1- الأساس القانوني لدفع جزء من الثمن :

  • لا يوجد في القوانين عادة نص خاص بدفع جزء من الثمن، بل يُطبّق ما ورد في العقد.
  • فإذا كان العقد بيعًا نهائيًا، فإن سداد جزء من الثمن يعد تنفيذًا جزئيًا يلزم المتعاقدين ويغلق باب العدول.

2- القواعد العامة التي تحكم الموضوع :

هناك قواعد عامة تلعب دورًا مهمًا في تنظيم أثر العربون ودفع جزء من الثمن، مثل:

  • مبدأ العقد شريعة المتعاقدين
  • مبدأ تنفيذ العقد بحسن نية
  • مبدأ الشرط الجزائي
  • قواعد الإثراء بلا سبب

رابعًا: أثر العربون في فسخ العقد أو العدول عنه

يُعد العربون وسيلة إجازة للعدول، بحيث يحق لأي من الطرفين العدول دون الحاجة لتبرير، بشرط:

  • أن يكون الاتفاق صريحًا على اعتبار المبلغ عربونًا
  • أن يكون العدول قبل بدء تنفيذ العقد
  • ألا يكون العدول بغرض الإضرار بالطرف الآخر

1- الآثار المالية للعدول :

  • إذا عدل الطرف الذي دفع العربون، فإنه يفقد المبلغ المدفوع.
  • أما إذا عدل الطرف الذي قبض العربون، فإنه يرد العربون مضاعفًا.

وهذا التعويض يعد جزاءً اتفاقيًا سابقًا يهدف لتحقيق العدالة والتوازن بين الطرفين.

2- القضاء والعدول بالعربون :

  • استقر القضاء المصري على أن العربون يفيد جواز العدول، وأنه لا يجوز للطرفين القول بخلاف ذلك ما لم يُثبتوا اتفاقًا صريحًا.
  • وقد أكدت محكمة النقض أن العربون لا يعتبر جزءًا من الثمن ما لم يوجد نص واضح على ذلك.

3- ما إذا كان العربون شرطًا جزائيًا ؟

  • يرى كثير من الفقهاء أن العربون نوع من الشرط الجزائي لكنه يتميز بأنه جزاء على العدول لا على الإخلال بالتنفيذ، مع وجود إرادة مسبقة تحدد قيمته.

خامسًا: أثر دفع جزء من الثمن في تكوين العقد وإلزام المتعاقدين

  • يُعد دفع جزء من الثمن من أهم القرائن العملية على حسم التعاقد بين المتبايعين،
  • ويترتب عليه آثار قانونية مباشرة تتعلق بتكوين العقد وبمدى إلزام الأطراف بتنفيذه.
  • ويختلف أثر هذا الدفع عن العربون اختلافًا جوهريًا، إذ إنه لا ينشئ حقًا في العدول، بل يدل على دخول العقد مرحلة النفاذ والالتزام الكامل.

1- دفع جزء من الثمن دليل على حسم التعاقد :

  • يعتبر دفع جزء من الثمن قرينة قوية على أن العقد أصبح نهائيًا وملزمًا، وأن الأطراف لا يملكون العدول.

2- عدم جواز العدول بعد دفع جزء من الثمن :

  • لا يسمح القانون بالعدول بعد دفع جزء من الثمن، لأن هذا الدفع يعني قبول السعر والعقد وبدء التنفيذ. والعدول يعتبر إخلالًا يرتب التعويض.

3- الآثار القانونية لإخلال المشتري بعد دفع جزء من الثمن :

إذا امتنع المشتري عن سداد باقي الثمن:

  • يحق للبائع طلب التنفيذ العيني
  • أو الفسخ مع التعويض
  • ويمكنه الاحتفاظ بالجزء المدفوع كتعويض إذا نص العقد على ذلك
  • أما دون نص، فالجزء المدفوع يجب رده بعد خصم الضرر الفعلي.

4- الآثار القانونية لإخلال البائع بعد قبض جزء من الثمن :

في حال عدم تنفيذ البائع لالتزامه (مثل عدم تسليم المبيع):

  • يحق للمشتري طلب التنفيذ
  • أو الفسخ واسترداد ما دفع
  • مع التعويض عن الضرر

سادسًا: التكييف القانوني للعربون ودفع جزء من الثمن

  • يمثل كل من العربون و دفع جزء من الثمن صورتين ماليتين قد تتشابهان في الظاهر،
  • لكنهما تختلفان اختلافًا جوهريًا من حيث طبيعتها القانونية وآثارها.
  • ويُعَدّ التكييف القانوني لهما من أهم المسائل التي استقر عليها الفقه والقضاء في قوانين المعاملات المدنية.

1- العربون: تكييفه كشرط عدول :

  • العربون يعد اتفاقًا خاصًا يعتبر عقدًا ملحقًا بالعقد الأصلي، ومن طبيعته أنه ليس جزءًا من الثمن ما لم يتفق على خلاف ذلك.
  • هو عبارة عن مبلغ مالي مخصص لتعويض الطرف الآخر في حالة العدول، وليس لتنفيذ الالتزام.

2- دفع جزء من الثمن: تكييفه كتنفيذ جزئي :

دفع جزء من الثمن يعتبر جزءًا من المقابل المالي الذي يلتزم به المشتري، وهو تنفيذ فعلي للعقد، يتطلب استمرار الأطراف في الالتزام ببقية شروط العقد.

سابعًا: التطبيقات العملية في العقود التجارية والعقارية

  • تكتسب التفرقة بين العربون و دفع جزء من الثمن أهمية كبيرة في الواقع العملي، خاصة في مجال العقود العقارية والعقود التجارية،
  • حيث يكثر استخدام هذين النظامين بهدف تثبيت الجدية أو تأكيد إتمام الصفقة.
  • وتقوم المحاكم بتمييز كل منهما وفقًا لظروف التعاقد وعبارات الاتفاق وإرادة الأطراف.

1- في عقود البيع العقاري :

  • يكثر استخدام العربون في شراء الشقق والعقارات، حيث يرغب الطرفان في الاحتفاظ بحق العدول لظروف مهنية أو مالية.
  • وفي حال دفع جزء من الثمن، يصبح العقد تمهيديًا أو ابتدائيًا ملزمًا.

2- في عقود الإيجار :

  • العربون أقل استخدامًا في الإيجارات، لكن دفع جزء من الأجرة شائع ويعتبر التزامًا نهائيًا.

3- في الصفقات التجارية :

  • تستخدم الشركات العربون لإثبات الجدية قبل البدء في الإجراءات الفنية أو التوريد.

4- النزاعات العملية :

أبرز النزاعات التي تُعرض على المحاكم تتعلق بـ:

  • هل المبلغ المدفوع هو عربون أم جزء من الثمن؟
  • هل يحق العدول؟
  • هل العقد ابتدائي أم نهائي؟
  • هل يحق الاحتفاظ بالمبلغ؟

يكون الفيصل عادة هو صياغة العقد وإثبات نية الطرفين.

ثامنًا: المقارنة مع التشريعات العربية والأجنبية

  • تختلف النظم القانونية في العالم من حيث تنظيمها للعربون وتحديد أثره القانوني،
  • كما تتباين في موقفها من دفع جزء من الثمن ومدى اعتباره دليلاً على إبرام العقد أو شروعًا في تنفيذه.
  • وتبرز أهمية المقارنة في تحديد مدى تأثر التشريعات العربية بالمدارس القانونية الكبرى، مثل القانون المدني الفرنسي، والقانون الأنجلوساكسوني، والقانون الألماني.

1- التشريع المصري :

  • يأخذ بجواز العربون كأصل عام، مع اعتبار دفعه دلالة على الحق في العدول.

2- التشريع الإماراتي :

  • يجعل العربون وسيلة للعدول إذا لم يكن هناك اتفاق على أنه جزء من الثمن.

3- التشريع الأردني :

  • ينص على أن العربون مفيد للعدول ولا أثر له في غير ذلك.

4- القانون الفرنسي :

  • يمنح للطرفين خيار العدول عند دفع العربون، وهو المصدر التاريخي للنظم العربية.

تاسعًا: الاتجاهات الحديثة في التعامل مع العربون ودفع جزء من الثمن

  • شهدت السنوات الأخيرة تطورات كبيرة في تنظيم العربون ودفع جزء من الثمن،
  • وذلك نتيجة اتساع التعاملات الإلكترونية، وازدهار القطاع العقاري، وزيادة استخدام العقود الذكية، وتطور الأنظمة التشريعية في العديد من الدول.
  • وقد انعكست هذه التغيرات على الفقه والقضاء، مما أدى إلى بلورة اتجاهات قانونية حديثة تستجيب للتحولات الاقتصادية وتوسع مفهوم الأمان التعاقدي.

1- عقود البيع الإلكتروني :

  • أصبح العربون يستخدم في الحجوزات الإلكترونية، مثل حجز الفنادق والطيران والمشتريات.

2- التطبيقات العقارية :

  • تقوم العديد من الشركات باستخدام العربون الإلكتروني قبل توقيع العقود.

3- الدفع المسبق عبر المحافظ الرقمية :

  • أصبح جزءًا من الثمن يدفع مقدمًا إلكترونيًا، ويعتبر إلزامًا نهائيًا.

4- التحديات الحديثة :

  • صعوبة إثبات نية المبلغ: عربون أم جزء من الثمن؟
  • تزايد النزاعات بسبب الغموض في الصياغة
  • الحاجة إلى توحيد معايير واضحة

عاشرًا: توصيات عملية لضمان صحة الاتفاق

  1. تحديد ما إذا كان المبلغ عربونًا أو جزءًا من الثمن بشكل صريح
  2. كتابة بند واضح حول حق العدول أو عدمه
  3. تحديد الآثار المالية للعدول أو الإخلال
  4. التوقيع على العقد بحضور شهود إن أمكن
  5. الحصول على إيصال رسمي بالمبلغ المدفوع
  6. الاستعانة بمحامٍ لصياغة العقد
  7. الاحتفاظ بالمراسلات والرسائل الإلكترونية التي تدل على الاتفاق

 

يتمتع مكتبنا بخبرة واسعة في مختلف أنواع القضايا والمسائل القانونية، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكل من يبحث عن حلول قانونية دقيقة وفعالة. سواء كنت تواجه قضية شخصية أو تجارية، أو تحتاج إلى توجيه قانوني متخصص، فإن فريق المحامين لدينا على استعداد لتقديم الدعم الكامل لك.

لمعرفة المزيد عن خدماتنا أو لحجز استشارة قانونية، يمكنك التواصل معنا عبر الضغط على الرابط التالي، أو ملء النموذج أدناه وسنقوم بالرد عليك في أقرب وقت ممكن:

[“contact-form-7 id=”218″ title=”اتصل بنا”]