جريمة الرشوة وأضرارها على المجتمع

تُعدّ جريمة الرشوة من أخطر الجرائم التي تهدد كيان الدولة ومؤسساتها، لما تمثله من اعتداء مباشر على مبدأ العدالة والنزاهة والمساواة، وتدمير لقيم العمل والضمير العام. فهي جريمة تمس الثقة بين المواطن والإدارة العامة، وتضعف مؤسسات الدولة وتفسد الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ولذلك، لم تكن الرشوة مجرد مخالفة قانونية فحسب، بل هي ظاهرة اجتماعية وأخلاقية تمس الضمير العام، وتُعتبر من أبرز مظاهر الفساد الإداري الذي يسعى القانون والشرع والمجتمع إلى محاربته بكل السبل.

أولاً: مفهوم جريمة الرشوة

  • تُعرف الرشوة قانونًا بأنها: اتفاق بين موظف عام أو من في حكمه وبين شخص آخر على أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل من أعمال وظيفته مقابل فائدة مادية أو معنوية.
  • ويُستفاد من هذا التعريف أن جريمة الرشوة تقوم على وجود علاقة فاسدة بين الراشي والمرتشي، يكون هدفها الحصول على مصلحة غير مشروعة أو مخالفة للقانون.

1. التعريف الشرعي للرشوة :

أما في الشريعة الإسلامية، فقد وردت الرشوة في النصوص القرآنية والحديثية باعتبارها من أشد المحرمات. قال الله تعالى:

  • “وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 188).
  • كما ورد في الحديث الشريف:
  • “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما” (رواه أحمد وأبو داود والترمذي).
  • ومن ثم، فالرشوة في المفهوم الشرعي هي كل ما يُعطى من مال أو منفعة لتحقيق باطل أو لإبطال حق، وهي محرمة على كل من يعطيها أو يأخذها أو يتوسط فيها.

2. التمييز بين الرشوة والهدايا :

  • يختلط الأمر أحيانًا بين الرشوة والهدايا، خاصة في المعاملات الإدارية أو التجارية.
  • والفارق الجوهري بينهما أن الرشوة ترتبط بنية فاسدة تهدف إلى التأثير على أداء الموظف العام في عمله، بينما الهدية تكون خالية من هذا القصد ولا يترتب عليها أي إخلال بالواجب الوظيفي.
  • القانون يجرّم الرشوة لأنها تفسد الإرادة وتؤدي إلى انحراف الموظف، بينما يُجيز الهدايا الرمزية التي لا تؤثر على الحياد أو العدالة.

ثانيًا: أركان جريمة الرشوة

لكي تتحقق جريمة الرشوة من الناحية القانونية، يجب توافر أركان معينة، وهي:

1. الركن المادي :

ويتكون من ثلاثة عناصر:

  • الطلب أو القبول أو الأخذ: بأن يطلب الموظف العام مالًا أو فائدة، أو يقبلها، أو يتسلمها فعلًا.
  • العلاقة الوظيفية: يجب أن يكون المرتشي موظفًا عامًا أو من في حكمه، أي ممن يتولون خدمة عامة.
  • الغرض من العطاء: أن يكون الهدف هو أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل من أعمال الوظيفة.

2. الركن المعنوي :

  • وهو القصد الجنائي الذي يتوافر لدى الراشي والمرتشي معًا.
  • فيجب أن يعلم الموظف أن ما يأخذه أو يُعرض عليه هو مقابل عمل يتصل بوظيفته،
  • كما يجب أن يقصد الراشي تحقيق مصلحة غير مشروعة أو الحصول على ميزة غير مستحقة.

3. صفة الجاني :

لا تقوم جريمة الرشوة إلا من موظف عام أو من في حكمه. وقد وسّعت التشريعات الحديثة مفهوم الموظف العام ليشمل:

  • العاملين في الهيئات العامة.
  • العاملين في الشركات المملوكة للدولة.
  • من يُكلفون بأداء خدمة عامة ولو مؤقتًا.

ثالثًا: صور جريمة الرشوة

تتخذ الرشوة صورًا متعددة بحسب طبيعة الفعل والغرض منه، ومن أهمها:

1. رشوة مقابل أداء عمل :

  • وهي الصورة التقليدية التي يتقاضى فيها الموظف مبلغًا نظير أداء واجب من واجباته، مثل تسريع معاملة أو إصدار ترخيص دون استيفاء الشروط.

2. رشوة مقابل الامتناع عن عمل :

  • وتحدث عندما يمتنع الموظف عن تنفيذ إجراء قانوني مقابل رشوة، كأن يمتنع عن تحرير مخالفة أو يغض الطرف عن تجاوزات.

3. رشوة لتعيين أو ترقية :

  • وتنتشر في بعض المؤسسات حين يُعرض المال للحصول على وظيفة أو ترقية أو نقل إداري دون استحقاق.

4. الرشوة غير المباشرة :

  • قد تتم عن طريق وسيط أو هدية ظاهرها المجاملة وباطنها الفساد، أو من خلال تبرعات أو عقود شكلية تُخفي وراءها نية التأثير.

رابعًا: الأسباب والدوافع المؤدية إلى جريمة الرشوة

تتعدد الأسباب التي تدفع الأفراد إلى ارتكاب جريمة الرشوة، ومن أهمها:

1. ضعف الوازع الديني والأخلاقي :

  • حين يغيب الضمير وتضعف القيم الدينية، يسهل على الإنسان أن يبرر لنفسه قبول أو عرض الرشوة، ظنًا بأنها وسيلة مشروعة لتيسير الأمور.

2. تدني الأجور والظروف الاقتصادية :

  • قد تدفع الحاجة المادية بعض الموظفين إلى استغلال مناصبهم للحصول على دخل غير مشروع لتعويض ضعف رواتبهم.

3. غياب الرقابة الإدارية الفعالة :

  • عندما تضعف أجهزة الرقابة والمساءلة، تتفشى الرشوة دون خوف من العقوبة، ويتحول الفساد إلى ظاهرة ممنهجة.

4. تعقيد الإجراءات الإدارية :

  • كلما زادت البيروقراطية في مؤسسات الدولة، زادت فرص استغلال الموظفين سلطاتهم لابتزاز المواطنين أو تسهيل مصالحهم مقابل رشوة.

5. غياب الشفافية :

  • حين تفتقر المؤسسات إلى نظم واضحة للإفصاح والمساءلة، يسهل تمرير المعاملات المشبوهة وإخفاء مظاهر الفساد.

خامسًا: الأساس القانوني لتجريم الرشوة

  • تتفق معظم التشريعات في العالم على تجريم الرشوة بصورها المختلفة.
    وفي القانون المصري، نظم المشرّع جريمة الرشوة في المواد من 103 إلى 111 من قانون العقوبات، حيث نصت المادة 103 على أن:
  • “كل موظف عمومي طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعدًا أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته يُعد مرتشيًا ويعاقب بالسجن المؤبد وغرامة لا تقل عن ألف جنيه”.
  • كما تمتد العقوبة لتشمل:
  • الراشي الذي يقدم المال أو المنفعة.
  • الوسيط الذي يتدخل لإتمام الاتفاق.
  • وفي بعض الحالات، يعفى الراشي أو الوسيط من العقوبة إذا بادر إلى الإبلاغ قبل ضبط الجريمة.
  • أما الاتفاقيات الدولية، فقد تناولت الرشوة ضمن إطار مكافحة الفساد، وعلى رأسها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003،
  • التي دعت الدول الأعضاء إلى تجريم الرشوة ووضع آليات للتعاون الدولي لاسترداد الأموال المنهوبة.

سادسًا: الآثار القانونية والاجتماعية لجريمة الرشوة

  • تُعد جريمة الرشوة من الجرائم التي تتجاوز أثرها الفردي لتطال بنية المجتمع ومؤسساته على المستويين القانوني والاجتماعي،
  • فهي جريمة مزدوجة الأثر: تُفسد النظام القانوني القائم على العدالة، وتُخلّ بمنظومة القيم والأخلاق التي يقوم عليها المجتمع.
  • ومن ثمّ، فإن دراسة آثارها تتطلب النظر إليها من زاويتين متكاملتين: الآثار القانونية والآثار الاجتماعية.

1. الآثار القانونية :

  • العقوبات الجنائية : تشمل السجن المشدد أو المؤبد للمرتشي، والسجن والغرامة للراشي والوسيط.
  • فقدان الثقة العامة: الموظف المرتشي يُفصل من عمله ويُحرم من الحقوق المدنية والسياسية.
  • بطلان الأعمال الناتجة عن الرشوة: كل إجراء أو قرار صدر نتيجة رشوة يُعد باطلًا قانونًا.
  • الحرمان من الترشح أو تولي الوظائف العامة: كون الجريمة تمس الأمانة والنزاهة، يحرم مرتكبها من الوظائف العامة مستقبلًا.

2. الآثار الاجتماعية :

  • انهيار الثقة بين المواطن والدولة: حين يشعر المواطن أن العدالة تُشترى بالمال، يفقد ثقته في المؤسسات الحكومية.
  • إضعاف القيم الأخلاقية: تنتشر ثقافة “دبّر نفسك” وتنهار قيم النزاهة والشفافية.
  • عدم تكافؤ الفرص: الرشوة تتيح فرص النجاح أو الترقية أو التعيين لمن يملك المال لا لمن يستحق، مما يؤدي إلى الإحباط الاجتماعي.
  • عرقلة التنمية: الأموال التي تُدفع كرشاوى تُهدر بدلاً من أن تُستثمر في مشاريع تنموية حقيقية.
  • زيادة معدلات الفقر: الفساد المالي يؤدي إلى سوء توزيع الثروات، وتراجع الخدمات العامة، وانتشار البطالة.

سابعًا: الوسائل القانونية والوقائية للحد من جريمة الرشوة

  • تُعدّ جريمة الرشوة من أخطر مظاهر الفساد التي تهدد استقرار المجتمعات وتضعف مؤسسات الدولة وتُقوّض مبدأ العدالة والمساواة.
  • ومكافحة هذه الجريمة لا تتحقق بالعقوبات فقط، بل تتطلب أيضًا منظومة متكاملة من الوسائل القانونية والوقائية التي تتضافر فيها جهود الدولة والمجتمع،
  • لضمان بيئة نزيهة قائمة على الشفافية والمساءلة.

1. تفعيل أجهزة الرقابة والمحاسبة :

  • إنشاء هيئات رقابية مستقلة تتابع أداء الموظفين وتتحقق من الذمة المالية للمسؤولين، مثل “هيئة الرقابة الإدارية” في مصر.

2. تشديد العقوبات :

  • فرض عقوبات صارمة على كل من يشارك في جريمة الرشوة، مع نشر أحكام الإدانة لتكون رادعًا عامًا.

3. تعزيز الشفافية في المعاملات الحكومية :

  • اعتماد نظم إلكترونية للخدمات الإدارية تقلل من التعامل المباشر بين الموظف والمواطن، وتحد من فرص الفساد.

4. رفع الوعي الديني والأخلاقي :

  • من خلال حملات توعية إعلامية ودينية تؤكد أن الرشوة ليست وسيلة للرزق بل جريمة تعود بالضرر على المجتمع بأكمله.

5. تحسين الأوضاع المعيشية للموظفين :

  • توفير رواتب عادلة وحوافز كافية للموظفين العامين يقلل من الدوافع الاقتصادية للرشوة.

6. حماية المبلغين عن الفساد :

  • تشجيع المواطنين على الإبلاغ عن جرائم الرشوة مع ضمان سرية بياناتهم وحمايتهم من الانتقام.

7. الرقمنة والتحول الإلكتروني :

  • التحول نحو الخدمات الحكومية الرقمية يسهم في تقليل التفاعل الشخصي، ويحد من فرص دفع أو طلب الرشاوى.

ثامنًا: موقف الفقه والقضاء من جريمة الرشوة

  • تُعدّ جريمة الرشوة من أخطر الجرائم التي تناولها كلٌّ من الفقه الجنائي والقضاء بالبحث والتحليل،
  • نظرًا لما تُحدثه من آثارٍ مدمّرة على العدالة والنزاهة في أداء الوظيفة العامة، وعلى الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
  • وقد تعددت المواقف الفقهية والقضائية في بيان ماهية الرشوة وأركانها وأحكامها والعقوبات المترتبة عليها،
  • وفقاً للأنظمة القانونية المختلفة، مع اتفاقها جميعًا على ضرورة محاربة هذه الجريمة بكل الوسائل الممكنة.

1. موقف الفقه الإسلامي :

  • يرى الفقهاء أن الرشوة محرمة تحريمًا قطعيًا، وأنها من الكبائر، لأنها تفضي إلى الظلم وضياع الحقوق.
  • وقال الإمام ابن تيمية: “الرشوة حرام باتفاق العلماء، وهي من أكل المال بالباطل، ومن أعان بها على باطل فقد شارك في الإثم”.
  • أما من اضطر لدفعها لرفع ظلم أو استرداد حق، فالإثم يقع على الآخذ لا المعطي.

2. موقف القضاء :

  • أكد القضاء المصري في العديد من أحكامه أن جريمة الرشوة تتحقق بمجرد طلب الموظف أو قبوله الوعد بالمنفعة، ولو لم يتم تنفيذ العمل المطلوب.
  • كما قضت محكمة النقض بأن:
  • “القبول أو الطلب يكفيان لقيام الجريمة، دون اشتراط تسلم العطية فعلًا”.

تاسعًا: التجارب الدولية في مكافحة الرشوة

  • تُعد مكافحة الرشوة قضية عالمية، وقد طورت الدول المتقدمة والنامية على السواء آليات فعالة للحد منها، منها:
  • الولايات المتحدة: تعتمد قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (FCPA) الذي يُجرّم دفع الرشوة لمسؤولين أجانب.
  • سنغافورة: من أنجح التجارب في مكافحة الفساد، حيث أسست هيئة مستقلة تُحقق مباشرة مع كبار المسؤولين دون تدخل سياسي.
  • السويد والدنمارك: اعتمدتا سياسة الشفافية المطلقة في العقود الحكومية، مما جعل معدلات الرشوة شبه معدومة.
  • الدول العربية: أنشأت عدة دول عربية هيئات وطنية للنزاهة ومكافحة الفساد استنادًا إلى اتفاقية الأمم المتحدة، مثل هيئة الرقابة ومكافحة الفساد في السعودية، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في مصر.

عاشرًا: الرشوة كعقبة أمام التنمية المستدامة

  • الرشوة ليست جريمة فردية فحسب، بل هي عقبة رئيسية أمام التنمية المستدامة، لأنها:
  • تضعف ثقة المستثمرين في بيئة الأعمال.
  • تؤدي إلى هدر الموارد العامة.
  • تفسد سياسات التوظيف والإدارة العامة.
  • تُعيق العدالة الاجتماعية وتزيد الفوارق الطبقية.
  • وبالتالي، فإن مكافحة الرشوة ليست مهمة القضاء فقط، بل مسؤولية وطنية ومجتمعية تتطلب تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام.

 

يتمتع مكتبنا بخبرة واسعة في مختلف أنواع القضايا والمسائل القانونية، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكل من يبحث عن حلول قانونية دقيقة وفعالة. سواء كنت تواجه قضية شخصية أو تجارية، أو تحتاج إلى توجيه قانوني متخصص، فإن فريق المحامين لدينا على استعداد لتقديم الدعم الكامل لك.

لمعرفة المزيد عن خدماتنا أو لحجز استشارة قانونية، يمكنك التواصل معنا عبر الضغط على الرابط التالي، أو ملء النموذج أدناه وسنقوم بالرد عليك في أقرب وقت ممكن:

[“contact-form-7 id=”218″ title=”اتصل بنا”]