ظاهرة التحرش في الوطن العربي

تُعدّ ظاهرة التحرش من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد أمن المجتمعات واستقرارها الأخلاقي والنفسي، وهي ليست جديدة في التاريخ الإنساني، لكنها تفاقمت في العقود الأخيرة مع تغيّر القيم الاجتماعية وتراجع الوعي الأخلاقي في بعض الفئات.
وفي الوطن العربي، ورغم ما تمتاز به المجتمعات من طابع ديني وثقافي محافظ، فإن التحرش الجنسي أصبح واقعًا مؤلمًا تعاني منه النساء والفتيات بل وحتى بعض الفئات من الرجال والأطفال، مما يثير قلق المجتمع والدولة على حد سواء.

فما هي حقيقة ظاهرة التحرش في الوطن العربي؟ وما أسبابها وأنواعها؟ وما آثارها النفسية والاجتماعية؟ وكيف واجهتها القوانين العربية؟ وما السبل الممكنة للحد منها؟
هذه الأسئلة تمثل محور هذه الدراسة القانونية والاجتماعية الشاملة.

أولاً: مفهوم التحرش وحدوده القانونية والاجتماعية

  • التحرش لغةً مشتق من “الحَرَش”، أي الإزعاج أو الإيذاء. ويُقال “تحرّش به” أي ضايقه عمدًا بقول أو فعل.
  • أما اجتماعيًا، فهو كل سلوك غير مرغوب فيه ذي طبيعة جنسية، يصدر من شخص تجاه آخر بقصد لفت الانتباه أو الإيحاء الجنسي،
  • سواء بالكلمة أو النظرة أو اللمس أو حتى عبر وسائل التواصل.

 التعريف القانوني للتحرش :

  • القوانين العربية اختلفت في صياغة مفهوم التحرش لكنها اتفقت على جوهره، وهو كل فعل أو قول يحمل إيحاءً جنسيًا غير مرغوب فيه يترتب عليه مضايقة أو انتهاك لكرامة الضحية.
  • فالقانون المصري مثلًا عرّف التحرش في المادة (306 مكرر أ) من قانون العقوبات بأنه “كل من تعرّض للغير في مكان عام أو خاص بإيحاءات أو تلميحات أو أفعال ذات طبيعة جنسية.”
  • أما في القانون المغربي، فالمادة (503-1-1) من القانون الجنائي تُجرم كل من “أمعن في مضايقة الغير بأفعال أو أقوال ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية.”

ثانيًا: أنواع وأشكال التحرش في الوطن العربي

  • ظاهرة التحرش لا تقتصر على صورة واحدة بل تتخذ أشكالًا متعددة باختلاف الوسائل والمواقف الاجتماعية.

1. التحرش اللفظي :

  • هو الأكثر شيوعًا في الشوارع والأماكن العامة، ويشمل استخدام كلمات أو تعليقات ذات طابع جنسي أو إيحائي.
  • مثل إطلاق عبارات عن الجمال أو الجسد بطريقة غير لائقة، أو استخدام ألفاظ نابية بقصد الإغراء أو الإهانة.

2. التحرش الجسدي :

  • يتضمن ملامسة الجسد عمدًا دون رضا الضحية، كالمس أو الاحتكاك أو الإمساك.
  • ويُعد من أخطر أشكال التحرش لأنه يمثل انتهاكًا مباشرًا للحرمة الجسدية ويقترب من حدود الاعتداء الجنسي.

3. التحرش الإلكتروني :

  • ظهر مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
  • ويشمل إرسال رسائل أو صور أو تعليقات ذات طابع جنسي، أو ابتزاز الضحية بصور خاصة، أو استخدام الحسابات المزيفة للتحرش.
  • وقد تفاقمت هذه الظاهرة خاصة بين فئة المراهقين، لسهولة التخفي وصعوبة الملاحقة القانونية أحيانًا.

4. التحرش في بيئة العمل :

  • يحدث عندما يستغل أحد الطرفين موقعه الوظيفي لفرض سلوك أو تلميحات جنسية على الطرف الآخر مقابل الترقية أو التوظيف أو الامتيازات المهنية.
  • وهذا النوع يهدد بيئة العمل ويقوض مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين.

5. التحرش في المؤسسات التعليمية :

  • تعاني منه الطالبات في بعض المدارس والجامعات نتيجة غياب الرقابة،
  • ويُعد من أخطر أشكاله لأنه يمس فئة الشباب في بيئة يفترض أن تكون آمنة تربويًا وأخلاقيًا.

ثالثًا: أسباب تفشي ظاهرة التحرش في الوطن العربي

  • لا يمكن ردّ الظاهرة إلى سبب واحد، بل هي نتيجة تفاعل عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية ونفسية متعددة.

1. ضعف الوازع الديني والأخلاقي :

  • رغم أن الدين الإسلامي والمسيحي في الوطن العربي يحرمان بشدة أي سلوك يمس كرامة الإنسان أو يسيء للمرأة،
  • إلا أن بعض الأفراد يعانون من ضعف في الالتزام الديني أو في القيم الأسرية، مما يجعلهم أكثر عرضة لارتكاب أفعال التحرش.

2. التربية الأسرية الناقصة :

  • في كثير من الحالات، لم تعد الأسرة تمارس دورها التربوي في غرس مفاهيم الاحترام والمروءة،
  • بل يُترك الأبناء لتأثير الأصدقاء والإعلام، مما يؤدي إلى انحراف المفاهيم عن العلاقات بين الجنسين.

3. البطالة والفراغ :

  • كثير من الشباب العاطلين عن العمل يعانون من فراغ نفسي واجتماعي يدفع بعضهم إلى سلوكيات غير مسؤولة مثل التحرش،
  • كردّ فعل على الإحباط أو الرغبة في لفت الانتباه.

4. غياب الردع القانوني الفعّال في بعض الدول :

  • رغم تطور التشريعات العربية مؤخرًا، إلا أن بعض الدول كانت لفترة طويلة تفتقر إلى قوانين واضحة وصارمة تجرّم التحرش، مما شجع البعض على التمادي.

5. الإعلام والثقافة الشعبية :

  • بعض الأعمال الدرامية والأغاني والمحتويات الإلكترونية تساهم بشكل غير مباشر في تطبيع السلوكيات غير الأخلاقية أو تقديم المرأة كأداة للإغراء،
  • مما يشوش المفاهيم لدى فئات المجتمع.

6. ضعف وعي النساء بحقوقهن :

  • في مجتمعات كثيرة، لا تزال النساء يلتزمن الصمت عند التعرض للتحرش خوفًا من الفضيحة أو اللوم الاجتماعي،
  • مما يمنح المتحرش شعورًا بالإفلات من العقاب.

7. الازدحام في المدن الكبرى :

  • في المواصلات العامة والمناطق المزدحمة تزداد فرص وقوع التحرش، خصوصًا عندما يغيب عنصر المراقبة الأمنية أو الكاميرات.

رابعًا: الآثار القانونية والاجتماعية والنفسية للتحرش

  • تُعد جريمة التحرش من الجرائم التي لا تقتصر آثارها على الضحية فحسب، بل تمتد إلى المجتمع بأسره،
  • إذ تُحدث خللًا في المنظومة الأخلاقية والاجتماعية، وتؤثر في الاستقرار القانوني والنفسي.
  • وفيما يلي عرض تفصيلي لأهم هذه الآثار:

1. الآثار النفسية :

  • التحرش يترك جروحًا عميقة في نفس الضحية، تتراوح بين الخوف والقلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة.
  • كما يفقد الضحية الشعور بالأمان في الأماكن العامة، وقد تتراجع ثقتها بنفسها أو بالمجتمع.

2. الآثار الاجتماعية :

  • يتسبب التحرش في تقييد حركة المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، ويؤثر على نظرة المجتمع لها، خصوصًا عندما تُلام الضحية بدلًا من الجاني.
  • كما يؤدي إلى خلل في العلاقات الاجتماعية وزيادة الفجوة بين الجنسين، وانتشار ثقافة العنف اللفظي.

3. الآثار القانونية :

  • من الناحية القانونية، يُعد التحرش جريمة تمس النظام العام والآداب العامة، ويترتب عليها عقوبات جزائية متفاوتة حسب خطورتها.
  • وقد تؤدي إلى طرد المتحرش من عمله أو حبسه أو تغريمه، كما تُمنح الضحية الحق في المطالبة بالتعويض المدني عن الأضرار النفسية والمعنوية.

خامسًا: موقف القوانين العربية من ظاهرة التحرش

  • تُعدّ ظاهرة التحرش من القضايا التي شغلت اهتمام المشرّعين في الدول العربية خلال العقود الأخيرة،
  • بعد تزايد معدلاتها واتساع نطاقها في الفضاء العام والخاص، ومع إدراك خطورتها على الأمن الاجتماعي والكرامة الإنسانية.
  • وقد اتجهت معظم التشريعات العربية إلى تجريم التحرش بصوره المختلفة، وتحديد عقوبات رادعة للحد منه، مع تطوير آليات لحماية الضحايا وتيسير إجراءات الشكوى.
  • وفيما يلي عرض لأبرز المواقف القانونية في عدد من الدول العربية:

1. القانون المصري :

  • من أوائل القوانين العربية التي تناولت التحرش بشكل صريح.
  • ففي عام 2014 صدر تعديل للمادة (306 مكرر أ) من قانون العقوبات،
  • ونص على أن التحرش جريمة يعاقب مرتكبها بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تقل عن 3000 جنيه.
  • وتشدد العقوبة لتصل إلى الحبس خمس سنوات وغرامة تصل إلى 50 ألف جنيه إذا ارتكب الفعل في أماكن العمل أو التعليم أو باستخدام وسائل إلكترونية.

2. القانون المغربي :

  • أدخل المشرع المغربي سنة 2018 تعديلات مهمة، فجرّم التحرش في الفضاء العام والإلكتروني،
  • وفرض عقوبات تصل إلى الحبس ستة أشهر وغرامة مالية.
  • كما منح الضحايا الحق في تقديم شكاوى سرية لتشجيع الإبلاغ.

3. القانون التونسي :

  • يُعد من أكثر القوانين تقدمًا في المنطقة، إذ جرم التحرش بجميع أشكاله بموجب القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017،
  • وحدد عقوبات تصل إلى عام سجن وغرامات مالية، مع توفير حماية قانونية للضحايا.

4. القانون الأردني :

  • المادة (306 مكرر) من قانون العقوبات الأردني نصت على تجريم التحرش اللفظي والجسدي،
  • بعقوبات تصل إلى سنة سجن أو غرامة، مع إمكانية تشديد العقوبة إذا كان الفاعل موظفًا عامًا.

5. قوانين الخليج العربي :

  • في السعودية، أُقر نظام مكافحة جريمة التحرش عام 2018، ويعاقب بالسجن حتى خمس سنوات وغرامة تصل إلى 300 ألف ريال.
  • أما في الإمارات، فنص القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 1987 (قانون العقوبات) على عقوبات تتراوح بين الحبس والغرامة، وشدد المشرع العقوبات في عام 2020.

سادسًا: موقف الفقه والقضاء من ظاهرة التحرش

  • تُعد ظاهرة التحرش الجنسي من القضايا التي لاقت اهتمامًا متزايدًا في الفكرين الفقهي والقضائي،
  • نظرًا لما تمثله من اعتداء على الكرامة الإنسانية، ومساس بالأخلاق العامة، وتحدٍّ للقيم الدينية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع العربي.
  • وقد تناول كلٌّ من الفقه الإسلامي والقوانين الحديثة هذه الجريمة من زوايا مختلفة، لكنها تتكامل في النهاية نحو هدف واحد، وهو صون العرض والحفاظ على كرامة الإنسان.

1. في الفقه الإسلامي :

  • الإسلام حرم كل فعل يمس كرامة الإنسان أو يثير الفتنة أو يعتدي على الحياء.
  • قال تعالى: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم” (النور:30)، وقال أيضًا: “ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً”.
  • ويرى الفقهاء أن التحرش من مقدمات الفاحشة، وبالتالي يأثم فاعله ويجب تعزيره، أي معاقبته بعقوبة تقديرية رادعة يقررها القاضي.

2. في القضاء العربي :

  • صدرت أحكام كثيرة في مصر والمغرب وتونس تؤكد تشديد العقوبة على المتحرش،
  • واعتبار الفعل جريمة تمس الكرامة الإنسانية، حتى لو لم يصل إلى الاعتداء الفعلي.
  • وفي بعض الحالات، اعتمد القضاء على الكاميرات أو الشهادات أو المحادثات الإلكترونية كأدلة قاطعة.

سابعًا: وسائل الوقاية والمكافحة

  • تُعدّ ظاهرة التحرش من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد أمن واستقرار المجتمعات،
  • لما تخلّفه من آثار سلبية على الضحية والأسرة والمجتمع ككل. لذا فإن مكافحة هذه الجريمة لا تقتصر على المعاقبة بعد وقوعها،
  • بل تمتد إلى إجراءات وقائية وتوعوية وتشريعية وتربوية تسهم في منع وقوعها من الأساس، وتوفير بيئة آمنة تحترم كرامة الإنسان.

1. التوعية المجتمعية :

  • التثقيف العام عبر المدارس والإعلام والمساجد ضروري لتصحيح المفاهيم ونشر ثقافة احترام الجسد والخصوصية.

2. تمكين المرأة قانونيًا :

  • ينبغي تسهيل إجراءات الشكوى وتوفير مراكز دعم قانوني ونفسي للضحايا، وضمان سرية البيانات وتشجيع النساء على الإبلاغ.

3. تشديد العقوبات :

  • كلما كانت العقوبات واضحة ورادعة زادت فاعليتها في الردع العام والخاص، خاصة في حالات التحرش الجماعي أو الإلكتروني.

4. الرقابة في الأماكن العامة :

  • استخدام الكاميرات والمراقبة الإلكترونية في المواصلات والمدارس والمرافق العامة يساعد على توثيق الجرائم وردعها.

5. إصلاح المناهج التعليمية :

  • ينبغي إدماج قيم الاحترام والمساواة بين الجنسين في التعليم منذ الصغر لتكوين جيل أكثر وعيًا بحقوق الآخرين.

6. دور المؤسسات الدينية :

  • المؤسسات الدينية يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في توجيه المجتمع نحو الالتزام بالأخلاق وضبط السلوك وفق مبادئ الشريعة.

7. الإعلام الهادف :

  • تشجيع الأعمال الفنية التي تبرز خطورة التحرش وتُدين المتحرش بدلًا من تبرير أفعاله، مع محاربة المحتوى الذي يروج لصورة سلبية عن المرأة.

ثامنًا: التحديات التي تواجه مكافحة التحرش في الوطن العربي

رغم التطور التشريعي، لا تزال هناك عقبات عدة:

  1. الخوف من الإبلاغ بسبب الوصم الاجتماعي أو ضعف الثقة في إجراءات العدالة.
  2. ضعف الأدلة المادية في حالات التحرش اللفظي أو غير الموثق.
  3. التمييز ضد المرأة في بعض المجتمعات المحافظة التي تلقي اللوم على الضحية.
  4. قلة التدريب لدى الأجهزة الأمنية على التعامل مع قضايا التحرش بخصوصية واحترام.
  5. التحرش الإلكتروني العابر للحدود الذي يصعب تعقبه قانونيًا دون تعاون دولي.

تاسعًا: تجارب ناجحة في مكافحة التحرش في العالم العربي

  • تُظهر التجارب العملية في عددٍ من الدول العربية أن مواجهة ظاهرة التحرش ليست أمرًا مستحيلًا،
  • بل يمكن تحقيق نتائج ملموسة من خلال التكامل بين التشريع، والوعي المجتمعي، والتطبيق الصارم للقانون.
  • وقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات كبيرة في تعامل المجتمعات العربية مع هذه الجريمة، إذ انتقلت من السكوت والإنكار إلى الاعتراف والمحاسبة.
  • فيما يلي عرضٌ لأبرز التجارب الناجحة في هذا المجال:

1. مصر :

  • شهدت حملات توعية ناجحة مثل مبادرة “شُفْتُ تحرش”، التي ساهمت في رصد الحالات وتوعية الشارع، إلى جانب تعديلات قانونية رادعة.

2. تونس :

  • تبنت الحكومة استراتيجية وطنية لمكافحة العنف ضد المرأة تشمل برامج دعم نفسي للضحايا وتدريب الشرطة.

3. المغرب :

  • أنشأت الحكومة خطوطًا ساخنة لتلقي شكاوى التحرش، مع برامج تعليمية في المدارس والجامعات.

4. السعودية :

  • بعد تطبيق قانون مكافحة التحرش، لوحظ انخفاض في البلاغات نتيجة الردع القانوني وحملات التوعية الاجتماعية.

 

يتمتع مكتبنا بخبرة واسعة في مختلف أنواع القضايا والمسائل القانونية، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكل من يبحث عن حلول قانونية دقيقة وفعالة. سواء كنت تواجه قضية شخصية أو تجارية، أو تحتاج إلى توجيه قانوني متخصص، فإن فريق المحامين لدينا على استعداد لتقديم الدعم الكامل لك.

لمعرفة المزيد عن خدماتنا أو لحجز استشارة قانونية، يمكنك التواصل معنا عبر الضغط على الرابط التالي، أو ملء النموذج أدناه وسنقوم بالرد عليك في أقرب وقت ممكن:

[“contact-form-7 id=”218″ title=”اتصل بنا”]